أحمد عيشة
مما لا شك فيه أن عشرين مليون سوري يواجهون الآن مستقبلاً مليئاً بالتحديات والأخطاء، بعد خلاصهم بأيديهم من أسوأ نظام لصوصي عانوا خلال فترة حكمه من أفظع الإهانات، وشواهد مسلخ صيدنايا كافية، هذا المسلخ وغيره ترك غصة لدى الملايين نتيجة لفقدان أحبتهم، الذين لم يعرفوا أي شيء عن أثرهم، سوى أنه لا وجود لهم.
فمع هروب الأسد وحاشيته، أصبح لدى سوريا، بعد طول انتظار، فرصة لبناء نظام ديمقراطي تعددي يتيح لهم الآن فرصة، لم تكن موجودة من قبل، للعيش والعمل والازدهار في بلدهم الأم، بدلاً من ركوب دروب الموت بحثاً عن ملاذ آمن وفرصة للعيش في الخارج.
كل هذا الأمل لا ينسي الصعوبات والتحديات الكبرى أمام هذا المشروع-الحلم، وهي كثيرة (تشكيل الحكومة، البرلمان، مصير الجيش والأمن، الجيوش والميليشيات الأجنبية، إعادة الإعمار، المهجرين، العلاقات الخارجية..).
نظام الأسد الذي حوّل البلاد إلى ركام بفضل داعميه، وتحديداً إيران وروسيا، لم يكن أكثر من مجرد عصابات همها، بعد أن أفرغت البلاد من البشر والموارد، أن تجني أكبر ثروة، فهي تعرف أنها إلى زوال..
ما هو أكثر أهمية أن البلاد حرّرها السوريون بأيديهم مستفيدين من الظروف الإقليمية التي سادت قبل التحرير، فنظام الأسد الذي حوّل البلاد إلى ركام بفضل داعميه، وتحديداً إيران وروسيا، لم يكن أكثر من مجرد عصابات همها، بعد أن أفرغت البلاد من البشر والموارد، أن تجني أكبر ثروة، فهي تعرف أنها إلى زوال، فكانت تجارة الكبتاغون التي غمرت البلاد العربية وخلقت لها مشكلات لدرجة تحولت إلى ورقة مساومة مع نظام الأسد، وهذا ما كشفت عنه عملية التحرير وتهاوي عصابات الأسد وفرارها كلٌّ بما يحمل تبعًا لمكانه، تاركين البلد بحالة من الدمار والإفقار، الأمر الذي يضيف تحديات كبرى لعملية البناء، بما فيها إعادة تشكيل الدولة ومؤسساتها، هذه العملية التي تحتاج إلى تضافر جميع السوريين، خاصة أمام المخاطر التي تحيط بهم، سواء من الداخل أو الخارج.
ما يبديه قادة “هيئة تحرير الشام” -وهي الجهة الحاكمة الحالية- من مرونة في التعامل مع الناس أمرٌ إيجابي، ويجب البناء عليه ودعمها في عملها من خلال المشاركة، والمشاركة لا تستبعد النقد، خاصة مع التخوفات الناتجة عن سلوك “الهيئة” في تجربتها الصغيرة في إدلب، التي يتوجب الخروج منها نحو الدائرة الأوسع، نحو سوريا ككل، ومد الأيادي إلى جميع الوطنيين والديمقراطيين.
ومن الجهة الثانية، ينبغي البناء على أن الهيئة ليست كتلة صماء لا تطولها التغيرات، فهي كباقي القوى الاجتماعية والعسكرية تخضع لقوانين الحياة وتطوراتها، وخاصة بعد أن انتقلت إلى حكم البلاد. وبالتالي، فالتوقف عند سلوك سابق لها وتصنيف الغرب لها بأنها إرهابية مسألة لا بد من تجاوزها، وهذا التجاوز يمكن أن تساعد فيه جميع القوى الوطنية والديمقراطية من خلال مشاركتها في عملية بناء الدولة من جديد.
ثمة تحديات أخرى داخلية، منها سيطرة “وحدات حماية الشعب” على جزء مهم من سوريا، بثرواته وموقعه، ومواقف هذه الوحدات العدائية تجاه تطلعات السوريين، هذه القوة العسكرية، بما تملكه من قوات مدربة ومجهزة عسكرياً من الولايات المتحدة والغرب، الذي يشترط صباح مساء في خطابه وموقفه من السلطة الجديدة في سوريا أن تكون حامية للأقليات. خاصة مع معرفتنا بعلاقة تلك الميليشيا خلال فترة الثورة مع النظام وإيران، من خلال توجه حزبها الأم -حزب العمال الكردستاني- وعلاقته مع أنظمة القمع، ناهيك عن عقيدته وبنيته المخابراتية التي تجسدت بمعاملة السوريين، سواء العرب أو الكرد غير الموالين له.
وهذا يتطلب من السلطات الجديدة، بالتعاون مع القوى الوطنية والديمقراطية العربية والكردية، تقديم رؤية لحل المشكلة الكردية ضمن الإطار الوطني العام، بحيث يكشف دور ذلك الحزب ويعريه.
التحدي الآخر هو الأنظمة العربية المحيطة، وهو ما تجسد من خلال اجتماع العقبة ومطالبه التي عفا عليها الزمن، وهي ذات الأنظمة التي هرولت منذ أشهر للتطبيع مع نظام الأسد المتهالك، وقدمت له الإغراءات لكنها لم تحصد سوى الكلمات.
ناهيك عن أنها، مع المجتمع الدولي، لم تتمكن خلال تسعة أعوام من تطبيق أي بند من القرار 2254، حتى الكشف عن عدد المعتقلين وليس الإفراج عنهم، فهم كانوا يدركون أنهم قد تحولوا إلى جثث ومقابر جماعية.
فهذه الأنظمة تحاول إعادة تجربة مصر تحت حجة التخوف من حكم الإسلاميين، لكنها بجوهرها تسعى لتأبيد الاستبداد وخنق الشعوب، وهذه قضية هامة جداً لا بد من وعيها، فالعودة إلى ما قبل التحرير، سواء بوجود الأسد أم حاشيته ومن هم على شاكلته، كارثة كبرى، وما حدث في مصر وتونس مثالان نعيش آثارهما اليوم، حيث قتلت أولى التجارب الديمقراطية في الربيع العربي.
والدور المكمل الذي تقوم به إسرائيل، فمنذ اليوم الأول لسقوط الأسد وهروبه، تشن الهجمات على ما تبقى من بنى عسكرية لدرجة إفراغ البلاد من أي قدرة عسكرية، زيادة في إنهاكها وتحويلها إلى دولة-شركة قابضة فاقدة للسيادة والاستقلالية.
لا شك أن البلاد في حالة قاسية جداً على مستوى الخدمات، وحجم الدمار على مستوى البنية التحتية هائل، ومقدار نهب نظام الكبتاغون اللصوصي للبلاد لا مثيل له، ومن ثم، ستكون عملية البناء أكثر صعوبة..
في حين كانت خلال حكم “الأسد”، ورغم ضرباتها المتواصلة على ميليشيات إيران، وخاصة “حزب الله”، تتجنب القوى والمراكز العسكرية الأخرى، كونها تدرك أنها موجهة ضد الشعب السوري ولن تكون أبداً ضد إسرائيل طالما “الأسد” موجود. فهو أفضل ضامن لأمن حدودها.
أما بعد التحرير، فقد غدا الأمر مختلفاً تحت حجج واهية من أن الحكام الجدد لهم جذور إسلامية، وسبق وتحدثوا بوعود عن القدس وغيره. لكن جوهر عملياتهم العدوانية هو إعاقة التحول في سوريا.
لا شك أن البلاد في حالة قاسية جداً على مستوى الخدمات، وحجم الدمار على مستوى البنية التحتية هائل، ومقدار نهب نظام الكبتاغون اللصوصي للبلاد لا مثيل له، ومن ثم، ستكون عملية البناء أكثر صعوبة.
لكن يجب أن يكون أمامنا وفي كل لحظة عدم السماح بالعودة عن ذلك الإنجاز الكبير: دحر الأسدية، الذي يمثل أكبر تغير جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين، هذا التغير الذي انتظره وناضل من أجله السوريون طوال (54) عاماً من حكم العائلة الأسدية وحصلوا عليه مؤخراً، لكنهم يواجهون أوقاتاً عصيبة، تتمثل في كيفية تحديد لحظة البداية المتعلقة بنمط الحكم.
وبالتأكيد، هناك يقين مطلق واحد: مع رحيل الأسد، أصبح لدى السوريين الآن فرصة ليعيشوا حياة تتسم باللياقة والكرامة والفرص، ويجب عدم تضييعها.
المصدر: تلفزيون سوريا