نكاد نقول، هناك مراجعة شاملة لتاريخ المنطقة والعرب والإسلام، تتناول تاريخنا البعيد والقريب، كأننا نشهد صحوة على غرار الصحوة الإسلامية، يساهم فيها الإعلام العربي على نطاق واسع، وتحظى برضا أنظمة قرّرت بعد الإجهاز على الربيع العربي تحويل هذه المأساة إلى رافعة لـ”تنوير” شعوبها الجاهلة، والعمل على ربيع آخر، يشكل يقظة على الحقائق المغيّبة، وما لحقها من تشوهات وزيف وبهتان، بعد زمن طال نحو أربعة عشر قرناً.
يقوم بهذه المهمة أساتذة، يتميّزون بأنهم ضليعون بكل شيء، من التاريخ إلى الفلسفة والتراث والتصوف، وربما بجميع أنواع العلوم الإنسانية، دونما استثناء. وإعلاميون مهرة في الكلام، أي كلام دونما استثناء، وإن كانت مهمتهم صعبة حالياً، إذ عليهم دحض ما قالوه سابقاً على القنوات نفسها التي تعهدت الصحوة الحالية المباركة، فالتراجع حالة شاملة.
يجرى التشكيك بالقرآن والنبوة والخلافة والصحابة، وبرموز عظماء المسلمين؛ خالد بن الوليد وصلاح الدين الأيوبي …ورموز من التاريخ الحديث، خصوصاً عبد الناصر، وإعادة الاعتبار إلى مدّعي النبوة ومسيلمة الكذّاب والمرتدّين عن الإسلام إلى الملك فاروق.
ليس في هذا أي مأخذ، بل مطلوب، فالتاريخ ما زال أسير الجامعات والباحثين والدارسين، لم يخترق مجتمعاتنا، عرضة للمراجعة والأخذ والرد، وبأشد الحاجة إلى كتابة علمية مع التمحيص والتدقيق. الجهود مستمرة منذ عقود، والتاريخ تحت البحث والدراسة، فتاريخ أوروبا لم يبت فيه نهائياً، رغم أن ما يبذل فيه يفوق بعشرات الأضعاف ما نبذله في تاريخنا.
القائمون على هذه الصحوة، لم يتطوعوا لها، بل دُفعوا إليها، فبالغوا فيها، إذ للسياسة دور. لذا فالأساتذة الجهابذة يتكلّمون بثقة متناهية، وكأنهم يمتلكون الحقيقة المطلقة، ومشفقون علينا من جهلنا، بينما الإعلاميون يبدون من الدهشة ما يفوق دهشتنا.
بعدما انقلب ما يعرفونه رأساً على عقب، فالمؤمن كان كافراً، والطيّب كان شريراً، والشجاع كان جباناً، والبطل كان حقيراً… وهكذا إلى آخر السلسلة. الخلاصة، الذين كانوا ذروة فخرنا، ما هم إلا شخصيات بلغت من الانحطاط مبلغاً، يجعلنا نخجل من تاريخنا. لا تهاون في الحقيقة، هذا ما ينافحون عنه، فالأمر يعني تصحيح التاريخ، بعدما ضللنا، ولم يكن ابتلاؤنا بالهزائم والنكبات إلا لأننا استنقعنا في العيش على أمجاد باطلة.
المهم، ليس فقط حاضرنا مهلهلاً، ولا مستقبل لنا، بل ماضينا الذي نستمد منه العون، مجرّد تاريخ إجرامي، دموي وشرير. لو كانت الأنظمة صادقة لأوكلت هذه المهمة الإعلامية إلى مؤرخين موثوقين، إذ لا يصح على الإطلاق، إذا كانت هناك حقائق زائفة، الاستعاضة عنها بحقائق مزوَّرة، ما يدخل التاريخ في متاهة الاحتيال والمآرب الوضيعة لسياسات أنظمة انتهازية، ويزيد الفرقة فرقة، والتعاسة تعاسة، فلا ندع أغبياء الإعلام والباحثين عن الشهرة على أنقاض بلدانهم، يستفردون بعالم منكوب، ما دام الغرض التنكيل بمأثرة “الربيع العربي”، وتشويهه قبل ذهابه إلى التاريخ.
المصدر: العربي الجديد