لدمشق القديمة سحر مبهم عذب ولا يستطيع فك طلاسمه حتى الراسخون في العرافة والجنون. بالتأكيد لم تكن هذه المرة الأولى التي يقع بصري على تفاصيلها، ولكن هذه المرة وبروح تأمليه احسست أني اكتشف نفسي من خلالها، مشيت باسترخاء صوب مقهى النوفرة، واختلط لدي التصور والانطباع بالواقع، احتشدت الصور في داخلي وانقذفت متزاحمة متناوشة، تزيح الواحدة منها الأخرى. المآذن المشرئبة بأعناقها عالياً موغلة في الفضاء مقتربة من بطن السماء الأزرف كأنها نداءات او صراخ حاد أو رسائل مضادة من الأرض للمطلق و رغبة حلميه للتحرر من أسر الطين.
أضرحه الأولياء ترقد بسلام غير عابئة بلغط الأصوات المتصاعد من الأسواق القريبة ، ولا بهامات البيوت المتداخلة ، طيور اليمام الحمد لله والتي تنتقل بدعة وطمأنينة وحرية ذكرتني بما ينقصنا فغبطتها وتمتمت : حريه.
فكرت بشوارعها الضيقة الملتوية و الملتفة كالمتاهات ، و المخصصة أصلاً لعربات الخيل ، وما آلت إليه وهي ترزح تحت وطأة السيارات و القهر والبساطير .
و أدهشني ذلك التناقض العجيب بين ظاهر دمشق القديمة التي لا أعترف بسواها من الشامات التي نمت على هوامشها ، ظاهرها الجاد و القاتم و أسوارها العالية و الكتيمة و باطن بيوتها المفعم بمظاهر الترف و اللين والرهافة ، وخلصت إلى أن الحروب و الغزوات والحصارات المتكررة التي احاقت بها منذ طفولتها ، جعلت منها مدينه حذره تجيد فن التعامل مع الناس والزمن و تجيد فن الإظهار و الإبطان حسب الظروف .. مدينة التجار والمرونة والمساومات.. ولكن هل هناك من حد لتلك المرونة هذا ما سنعرفه في نهاية الحكايات؟!
وعلى عتبة المقهى نفضت لآلئ المطر المتغلغلة في شغري كما نفضت فيما بعد حبات الأرز المنثور من شرفات المنازل علينا ونحن نهتف: حرية.
ولم يطل انتظاري لأرى الحياة تدب في شرايينها مع صرخات أبنائها: الشعب السوري ما بينذل، بعدما كنت أحس دبيب الموت في جسدها وأقول: بضع خلجات وتنتهي تلك العجوز تلك المدينة الراسخة أبداً.