عمره نحو ١٠ سنين، والتقيت به في مصعد المبنى الذي أسكن فيه، تحدثت إليه باللغة العربية الفصحى، فنظر إليَّ مشدوها، ثم قال لي باللغة التركية: ” evet” نعم.
عرفت أنه مصري، وأن العربية الفصحى كانت غريبة عن أذنه بالقدر الذي ظن به أنني أتكلم لغة أجنبية، فتكلمت معه ببطء شديد، قائلًا له: “أنا قادم من المريخ كي أطمئن على أهل الأرض”، فارتعدت فرائص الولد، وأبان وجهه عن قلب يكاد ينخلع من مكانه.
هذا مثال بسيط من أمثلة يومية أشاهدها في تواصلي مع العرب الذين يعانون فقرًا مميتًا في مخزونهم اللغوي، لم يتبدّ في ملامح هذا الولد المسكين المغترب عن لغته، وبالتالي هويته العميقة، وإنما في ولد آخر يتلعثم ويرتبك حينما يحاول الرد على سؤال أطرحه عليه بالفصحى، وفي شاب يعاني وهو يكتم ضحكة مختبئة تحت شفتيه حينما أحدثه بما يفترض أنها لغته، وأفضل هؤلاء هو ذاك الذي يرتضي مجاراتي فيسمعني من فنون اللحن و”التأليف” ما يجعلني أستغيث بأي مترجم، حتى لو كان صينيًا، حتى يفسر ما يقوله لي أخي العربي.
بحسب اختلاطي بأمم وشعوب كثيرة، وتواصلي، في حياتي التي امتدت لعقدين في الغربة، مع أفراد ينتمون إلى قطاع واسع من الثقافات واللغات والبيئات الجغرافية المتنوعة، أكاد أجزم أن العرب هم أزهد الناس بلغتهم، بالرغم من القدسية التي تحملها هذه اللغة، وهذا الزهد لم يعد فساد الأنظمة السياسية والتعليمية وراءه، ولا وسائل الإعلام التي يمارس كثير منها إسفافًا وهبوطًا لغويًا غير مسبوق، وإنما سببه بيت افتُتِن صاحباه بلغة “الخواجات” الإنجليزية، حتى إنهم لم يعودوا يرون التفوق إلا فيها، ولا السيادة إلا في لكنتها، ولا الحضارة إلا في نطقها.
لا أحدثكم عن بيوت ربها عامل في مطعم، أو سكرتير في مكتب صغير، أو قائد سيارة أجرة، أو حائك، أو بائع في بقالة متواضعة، وإنما حديثي هذا عن أكاديميين ومثقفين ونخبٍ في المجتمع، ولا أحدثكم عن نخب عَلمانية، وإنما كثير منها يقولون إنهم يحملون همًّا إسلاميًا، ومشروعًا حضاريًا، وبناءً مجتمعيًا.
وكيف لي أن ألوم صديقيَّ الولدين السوريَّيْن، اللذين يسكنان في البناية نفسها التي أقطنها، وهما يفتحان فاهما دهشة حينما ألقي عليهما التحية وبعضَ التوجيهات السريعة بالفصحى وأبوهما يعلم الناس القرآن والتفسير واللغة العربية؟!
كيف لي أن ألوم صديقي الولد المصري الذي صدق أن محدثَه قادم من كوكب المريخ فقط لمجرد سماعه كلمات باللغة العربية الفصحى؟ كيف لي أن ألومه وهو ضحية أبوين غيّبا عنه، قصدًا أو غفلة أو جهلًا، وعيه بهويته؟!
لا أدري ربما عليَّ أن أهرب من هذا الواقع، وأسافر حقًا إلى المريخ، لعلي أجد هناك عربًا يفهمون ما أقول!