في سباق مع الوقت، تحاول الفعاليات السياسية المعارضة في محافظة إدلب تجميع نفسها. وبعد اجتماعات مكثفة في الأيام الماضية، أعلنت تسعة كيانات ثورية ومهنية ونقابية اندماجها وتأسيس «الجبهة الوطنية السورية» وتعتبر «الهيئة السياسية في محافظة إدلب» أبرز تلك الهيئات، إضافة إلى «تجمع سوريا الثورة» الذي يرأسه الدكتور عثمان بديوي، وزير الإدارة المحلية في الحكومة السورية المؤقتة (حكومة أحمد طعمة).
وعين الموقعون على البيان أنفسهم «لجنة تحضيرية» هدفها الإعداد والدعوة لمؤتمر عام. وأشار البيان الذي صدر مساء الخميس وحصلت «القدس العربي» على نسخة منه، أن «الجبهة الوطنية السورية تقف على مسافة واحدة من جميع القوى الثورية والعسكرية المساهمة في إسقاط النظام وتحرير الأرض»، ولعل هذا البند من الاتفاق أكثر ما يجب التوقف عنده. فالقوى الثورية والعسكرية عبارة فضفاضة تحتاج إلى توضيح، وهو ما جرت عليه عادة المعارضة السياسية السورية، في تجنب إدانة أي فصيل عسكري، بسبب الخوف مرة، وحجة وحدة الصف ضد النظام واعتبار الأولية هي إسقاط النظام وترك موضوعة الفصائل وانقساماتها وأيدولوجيتها ودورها السلبي في ما آلت الأمور إليه.
في حين، يحتاج الشمال السوري إلى جسم سياسي يستطيع حشد الأهالي والأعيان والوجهاء بهدف الضغط على هيئة «تحرير الشام» (النصرة سابقاً) وتوحيد الجهود المبذولة مع «الجبهة الوطنية للتحرير» المشكلة أخيراً، وفتح نقاشات حقيقية مع قيادات «تحرير الشام» والضغط على العناصر المحلية من منتسبي التنظيم لتركه. بدل كل ذلك، فضل الكيان السياسي «الوقوف على مسافة واحدة» من جميع الأطراف العسكرية.
إلى ذلك، تتحمل «الهيئة السياسية» في محافظة إدلب مع الهيئات السياسية في حلب وحماة واللاذقية، مسؤولية أساسية في إيجاد مقترح للتعامل مع الوضع العام وحلول للمشكلة الكبيرة، تعرض على الجانب الروسي بالتنسيق مع الضامن التركي، وإبعاد شبح حرب واسعة النطاق في إدلب.
ويترتب على «الجبهة الوطنية للتحرير» باعتبارها أبرز قوى الشمال العسكرية، إنشاء «خلية أزمة» مع الهيئات السياسية في تلك المحافظات، وعدم استفرادهم في قرار مصير إدلب. فقد أثبتت التجارب أن «قادة الفصائل» ضعفاء أمام الضغط الإقليمي وانهم بلا خبرة سياسية على الإطلاق، وهذا ما اتضح في مسار أستانة والمفاوضات الأخيرة في درعا بعد أن أبعدوا المدنيين والسياسيين من «لجنة الأزمة» ووافقوا على الاستسلام خلال أيام معدودة.
وفي السياق، يتعين على الفاعلين السياسيين المحليين، تقديم مقترحات تكون مرضية لموسكو والنظام السوري، من خلال فهم الرسائل الروسية المتكررة، والتي ركزت على ثلاث مسائل أساسية: وقف الهجمات بالطائرات المسيرة عن بعد (الدرون)، وفتح طريق حلب ـ دمشق الدولي، والقضاء على تنظيم «جبهة النصرة» المصنفة إرهابية على لوائح الإرهاب الدولية. ومع صعوبة حل قضية «النصرة» في الوقت الحالي، يمكن حل العقدتين الأوليين، من خلال الضغط الشعبي المحلي واجبار «تحرير الشام» على وقف إطلاق الطائرات المسيرة باتجاه القاعدة الجوية الروسية في حميميم، وإدراك أن منطقة سهل الغاب وريفي جسر الشغور الغربي والجنوبي في خطر وربما يصل إلى مدينة جسر الشغور نفسها وعدم اكتفاء الروس بتأمين ريفها، وتحميل مسؤولية سقوطها إلى «تحرير الشام» بشكل واضح ودون مواربة.
المسألة الثانية، هي إنضاج فكرة فتح الطرق الدولية جميعها، أي فتح طريق حلب ـ اللاذقية، وباب الهوى ـ دمشق، إضافة إلى طريق حلب ـ دمشق، والبحث في كيفية تأمينها بشكل نهائي والسماح بحرية الحركة للمدنيين والبضائع والتنقل بين المدن بشكل آمن دون التعرض لأي مسافر، وعدم تكرار سيناريو السلب والنهب الذي حصل لأبناء مدينة حلب، أو عمليات الخطف ـ رغم قلتها ـ لأبناء الطوائف الأخرى.
العمل الجاد والدؤوب وتضافر الجهدين العسكري والسياسي في وجه تعنت «تحرير الشام»، سيدفع الأخيرة إلى تقديم تنازلات خوفا من تحميلها الكارثة المحدقة.
والخطورة في وضع إدلب تأتي من حالة موت سريري على مستوى «الائتلاف الوطني» و «هيئة التفاوض» منذ اتفاق أستانة إلى اليوم، ولعل غيابها في سقوط الجنوب السوري كان في أكثر حالاته وضوحاً.
بناء عليه، فان المسؤولية السياسية تقع على أبناء الداخل السوري في الشمال. وعليهم البحث في ما يهدأ من الغضب الروسي، وإبعاد خطر أي عملية عسكرية في إدلب، حتى لو اقتصرت على منطقة جسر الشغور والغاب أو جنوب إدلب.
هذا وتسلم فصائل «الجبهة الوطنية للتحرير» والفعاليات السياسية في إدلب دورها بشكل كامل لتركيا، رافضة تحمل أي مسؤولية في اجتراح الأفكار وبلورة المبادرات وتقديمها لأنقرة. وتلحظ نتائج ذلك الغياب لدى عموم المدنيين الذين فضل بعضهم النزوح إلى جانب نقطة المراقبة التركية في الصرمان في ريف معرة النعمان الشرقي. ولا يقتصر الترقب والخوف على المواطنين العاديين بل هو حال كل قادة الفصائل دون استثناء الذين فضلوا انتظار التعليمات من الجانب التركي دون رغبة في التفكير، على اعتبار ان هناك من يفكر عنهم.
أخيرا، ستحدد خريطة الطريق التي لم يعلن عنها مستقبل إدلب والشمال السوري عموماً بعد اجتماع وزير الدفاع التركي خلوصي أكار، ورئيس جهاز الاستخبارات حقان فيدان مع وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو في موسكو، الجمعة الماضي. وفي حال الاتفاق على ترتيبات أولية، فهذا يعني أن حالة الموت السريري في مؤسسات المعارضة الخارجية، انتقلت إلى كل الكيانات السياسية والعسكرية في الداخل أيضاً.
المصدر: القدس العربي