بين الصرخة الأولى التي زلزلت عرش الطاغية، وما طوته سنوات الثورة من محطات ووقائع صادمة، لم يعد الخلاص السوري، مشروعاً يمكن حصره في إسقاط النظام الأسدي، كما كان عليه الحال منذ بدايات الثورة وخلال سنواتها الأولى. إذ كشفت التحولات الكبرى التي واجهت مجتمع الثورة، لاسيما بعد سيطرة إيران وروسيا على قرار النظام، عدم إمكانية الفصل واقعياً بين معركة إسقاط النظام، وأدوار القوى الحليفة والداعمة له، ومحصلات تداعيات الصراع الدولي والإقليمي على سوريا. كما يقال بالعامية (كبرت الطوشة) وأصبح مشروع إنقاذ سوريا من مخاطر تفتيت وحدتها أرضاَ وشعباً، ومن تمزيق نسيجها المجتمعي وتفكيك هويتها الوطنية، هي من أبرز التحديات التي لا مناص من استحضار حقائقها ودروسها.
بيد أن الواقع الذاتي لقوى الثورة والمعارضة كما صار عليه اليوم، لا يشكل رافعة وطنية قادرة على مواجهة تلك التحديات، وهذا فحوى مأزق الثورة ونحن نشهد ذكراها الثامنة، وهي ذكرى تنبش في أعماقنا وفي آن واحد؛ مشاعر الغبطة والحبور حيال أجمل وأنبل حدث في التاريخ السوري الحديث، وأمرّ وأقسى مشاعر الألم على مآلات الثورة، وما يكابده السوريون من خذلان وانكسار، بعد أن استحال حلمهم بالحرية والخلاص، إلى أكبر مشهد دموي في عالم يحكمه التوحش على حساب دماء ومعاناة الشعب السوري.
بوسع كل سوري اختبر المسافة بين زمن الخروج إلى الحرية، وأزمنة الموت والقهر واللجوء التي طغت على حياته، أن يتساءل عن كيفية الاستمرار في معركة اسقاط النظام، دون أن تكون على حساب تدمير وضياع ما تبقى من البلد؟! وعن كيفية التمسك بمشروع التغيير وأحقيته الوطنية والأخلاقية، في ظل كل هذا الخراب والعجز المتغلغل في أجسام ومؤسسات الثورة؟ تساؤلات على هذا القدر من الإلحاح، لم تعد تقبل النمط الشعاراتي في الإجابات عنها، لأنه يمنع البحث الجدي عن مقترحات جديدة، تكسر ثنائيات وتصنيفات متداولة، حالت دون تجديد عقل الثورة بما يستجيب للمتغيرات التي جرت من حولها، وما اعترى بناها وأطرها السائدة من فوات مزمن. تفرض هذه التساؤلات بدورها التمييز بين مافيا النظام السوري، والمجتمع الذي يعيش تحت قبضتها وسيطرتها، وبين مجتمع الثورة المتعب والمشتت، والقوى التي تحتكر تمثيله والتعبير عنه بإرادات مزيفة. ما يعني اجتراح مقاربات ثورية في مضمونها، تقوم على تحديد القوى التي دمرت الوطن السوري، وباعت قراره الوطني، وتاجرت بمعاناة السوريين جميعاً حسب مواقعها وأدوارها في اللعبة السياسية.
يصعب التقدم نحو أهداف الثورة كما تفيد جردة حساب السنوات الماضية، دون الخروج من لعبة التعميم والتعميّة، التي تريد حشر الثورة في الزاوية التي يدفعها إليها النظام، وتحرير النظام من مسؤوليته الأساسية عن الكارثة التي طالت السوريين تحت قبضته ومن هم خارجها.
آن الأوان بعد ثماني سنوات من الحرب الفظيعة، التي طحنت المجتمع السوري بلا هوادة، كي يدرك السوريون في المناطق التي يسيطر عليها النظام، أن مصلحتهم في إسقاطه ليست مادة للمفاضلة بين السيئ والأسوأ، بل أنها تتقاطع مع مصلحة الثائرين عليه، لبناء سورية الحرة لكل أبنائها، لأن تكلفة بقائه هي التصفية التدريجية للكيان السوري مادياً ورمزياً. بالمقابل لم يعد مقبولاً تعميم صورة النظام البشعة على كل من يعيشون تحت حكمه، واستمرار نصب المتاريس الوهمية بين ضحايا الإجرام الأسدي، وضحايا المتسلقين على أكتاف الثورة ومؤسساتها. ما يجعل لهذه المقاربة مشروعيتها المتزايدة، انكشاف لعبة التطرف والإرهاب، بعد أن استنفذت الأطراف التي رعتها واستخدمتها كل ما أرادات تحقيقه من خلالها، وبعد أن انكشف أكثر سياسات الإفقار والفساد والفشل في إدارة الدولة، والتي كان النظام يبررها “بحجة حربه على الإرهابيين”.
ليس من السهل نهوض حوامل وطنية سورية، تضع مهمة إسقاط النظام من ضمن مهام تحرير سورية من كافة أشكال الهيمنة والاحتلال، لكن لا خيار آخر دون بناء تلك الحوامل وتوحيد رؤيتها وجهودها، بما يبعث الآمال بقدرة السوريين على إنقاذ وطنهم من براثن الاستبداد والهيمنة الخارجية. سيما وأن الذكرى الثامنة للثورة هذا العام، تتزامن مع وقائع دامغة تؤكد رفض السوريين العودة إلى ما قبل 2011، بدليل المظاهرات العارمة التي تشهدها حوران مؤخراً رغم المصالحات التي شهدتها، رداً على محاولات النظام إعادة تماثيله المكروهة إلى ميادينها وساحاتها، ولجوء خلايا سرية لمقاومة وحدات النظام وتشكيلاته العسكرية في العديد من المناطق الخاضعة لسيطرته. فيما تتزامن مع الذكرى الثامنة للثورة على الصعيد العربي، تحولات كبيرة كما يحدث في السودان والجزائر، من ثورات شعبية ضد الأنظمة البائدة في هذين البلدين، مما يعزز شرعية الثورات العربية رغم كل محاولات الثورات المضادة الالتفاف عليها وإخمادها بالحديد والنار.
إن أصدق إحياء لذكرى الثورة السورية، والوفاء لتضحيات الشهداء والمعتقلين والمصابين، ولكل من عانوا من التهجير والحصار والجوع واللجوء والتشرد والفقر، ولازالوا متشبثين بحقهم بالحياة والحرية والكرامة، هو العمل بإخلاص لاستعادة روح الثورة، وتصويب مسارها، واستنهاض إرادة السوريين مجدداً على طريق نيل الحرية والكرامة.
رأي مصير إحياء ذكرى يوم الأرض في (30 آذار) من كل عام، يستعيد في الذاكرة الوطنية الفلسطينية، تلك الانتفاضة الشعبية...
Read more