يبدو أن سياسة المصرف المركزي السوري بممانعة اللحاق بسعر السوق السوداء، خلقت فجوة بين سعري المركزي والسوق السوداء (تقترب أحياناً من 100 ليرة)، ما يتيح للمضاربة المالية أن تأخذ مداها، وما يعزز انهيار الليرة التدريجي.
حل الأزمة المالية بالإجراءات الأمنية واعتقال الصرافين وإغلاق شركات الصرافة، وفرض سعر “وهمي” للدولار أقل بكثير من قيمته في السوداء، كما حدث قبل شهور، لم يكن إلا حلاً مؤقتاً سرعان ما أثبت فشله. إذ أن الفجوة المتضخمة بين سعري الصرف، تواصل تخويف الناس من حيازة الليرة ما يرفع طلبهم على الدولار، وبالتالي تتعمق الفجوة مجدداً.
وما زالت الليرة السورية تعاني من الانهيار الأخير في سعر صرفها، منذ نهاية آذار/مارس حيث سجّلت 560 ليرة للدولار. وسجلت أسواق دمشق، الأربعاء، تداولاً بسعر صرف 544/546 ليرة أمام الدولار. ومع ذلك حافظ المركزي على سعر صرف 435/438 ليرة للدولار، و488.57/492.01 لليورو الذي سجّل في السوق السوداء سعر صرف 611/615 ليرة.
مصدر من المصرف المركزي السوري، قال لـ”المدن”، إن أحد أسباب انخفاض سعر الصرف هو تراجع قيمة القطع الاجنبي الموجود في الخزينة العامة خلال السنة الاخيرة بنسبة لا تقل عن 28%، مبرراً ذلك بـ”عمليات التدوير بالاسواق وضخ القطع الاجنبي غير المدروس للمصارف”.
ومن غير المعروف بدقة كمية القطع الأجنبي، ولا احتياطي الذهب، في المركزي السوري، إذ تعتبر هذه المعلومات سرية. ويُقدر بعض الاقتصاديين أن القطع الأجنبي كان قبل العام 2011 بحدود 18 مليار دولار، وأنه لا يتجاوز حالياً 800 مليون دولار.
مصادر “المدن” أشارت إلى أن السياسة المالية الحالية التي ينتهجها المصرف المركزي السوري، عبر “البنك التجاري” الذي رفع مؤخراً الفائدة على الايداع بالدولار، قد تكون أحد أبرز عوامل الانهيار الأخير في الليرة، إذ أنها تسببت برفع الطلب في السوق على الدولار. في حين يركز محللون ماليون على أن السماح للمستوردين من الصناعيين وغرف الصناعة السورية باستيراد المشتقات النفطية قد يكون السبب خلف تدهور قيمة الصرف الأخيرة. إذ أنه ومنذ انسحاب المركزي من عمليات تمويل المستوردات، قبل سنوات، اضطر الصناعيون لشراء العملة الأجنبية من السوق السوداء لتمويل مشترياتهم بالدولار. والآن، يضطر الصناعيون لشراء المشتقات النفطية من الخارج، بالدولار، ما يعني حاجتهم لشرائه من السوق المحلية، الرسمية أو السوداء.
رئيس جمعية المحللين الماليين السورية إحسان الكيلاني، قال لصحيفة “الوطن”، الموالية للنظام، إن لحاق المركزي بأسعار السوق السوداء، قد “يعطي إشارة للتجار والمضاربين بأن البنك المركزي قد قبل بالسعر الحالي للسوق السوداء، وأن المركزي غير قادر على تخفيض السعر”، ما سيؤدي لاحقاً إلى “ارتفاع إضافي لسعر السوق السوداء مجدداً، وخاصة أن الارتفاع المستمر لسعر الصرف هو عامل مؤذ للاقتصاد”، يتمثّلُ بربع أسعار البضائع وانخفاض القوة الشرائية، أي مزيد من التضخم.
لذا، أكد الكيلاني أن ثبات سعر الصرف عند مستوى معين هو عامل مهم وأساسي لانتعاش التجارة وتشجيع الاستثمار، في حين أن رفع سعر الفائدة على الليرة السورية يؤدي إلى ارتفاع تكلفة الاستثمار وارتفاع الأسعار، وإلى مزيد من التضخم، وبالتالي إلى مزيد من الانخفاض في قيمة الليرة. و”في حال رفع سعر الفائدة على الدولار أكثر من الليرة، فإن المدخرين سيتجهون لتحويل ما لديهم إلى دولار وإيداعها بالبنوك بهدف الحصول على مبلغ الفائدة، وهذا بدوره قد يؤدي للضغط على سعر الصرف”.
في السياق، قال مركز دمشق للأبحاث والدراسات “مداد” إن سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي يعود بصورة رئيسة إلى استمرار عمليات المضاربة على الليرة السورية، والطلب المتواصل على الدولار في السوق المحلية لتأمين تمويل بعض المستوردات، خاصة المشتقات النفطية والقمح، إلى جانب استمرار الضغوط على الليرة الناجمة عن استمرار تداعيات العقوبات الأميركية على الاقتصاد السوري.
رئيس هيئة الأوراق والأسواق المالية عابد فضلية، قال لـ”الوطن”، إن ذلك الارتفاع يعود لحدوث طلب كبير على الدولار في السوق السوداء، مبيناً في الوقت نفسه أن هناك طلباً على الدولار حالياً لشراء المشتقات النفطية، وهذا الأمر ساهم في ارتفاع الدولار خلال الأسابيع الأخيرة. وأوضح فضلية أنها حالة غير عادية، وقد “ساهم تجار في تأجيجها”، مبيناً أن هذا الارتفاع مؤقت، متوقعاً أن يستقر الدولار ويهدأ مع اقتراب نهاية الأشهر الثلاثة التي سمحت خلالها الحكومة للصناعيين والتجار باستيراد المشتقات النفطية، وسيتراجع بعدها.
نقيب المهن المالية والمحاسبية زهير تيناوي، قال لـ”الوطن”، إنه عندما يكون هناك أريحية في موضوع الاستيراد والسماح للصناعيين والتجار باستيراد مواد أساسية، ومنها مواد غذائية ومشتقات نفطية، فإن هذا الأمر يؤثر في شدة الطلب على الدولار وبالتالي ارتفاع سعر الدولار. إلا أن تيناوي أشار إلى أن إعلان المصرف التجاري السوري برفع فوائد الودائع بالنسبة للقطع الأجنبي، ستسهم في استقرار أو انخفاض تدريجي بسعر القطع الأجنبي، وهذا الأمر “مرهون بفترة زمنية ليست آنية”.
مصادر “المدن” أشارت إلى أن الفرق بين سعر السوداء والمركزي يشجّعُ المضاربات، ويدفع لرفع سعر صرف الدولار في السوداء ليقترب أكثر من قيمته الحقيقية. التخوف من انهيار جديد لليرة، حتى لو تدخل المركزي لرفع سعر الصرف، يدفع السوريين للثقة أكثر بالدولار أو الذهب. كما أن رفع سعر الصرف في المركزي سيتسبب أيضاً بتآكل ما تبقى من احتياطي القطع الأجنبي بسرعة كبيرة، ما سيدفع الليرة إلى مزيد من الهبوط في ظل التضخم الهائل الذي تعيشه الأسواق السورية. إذ يُقدّرُ حجم الكتلة النقدية بالليرة السورية في السوق، بنحو 650 مليار ليرة، أي ثلاثة أضعاف الكتلة النقدية في العام 2010، رغم انخفاض عدد السكان بنحو 5 ملايين نسمة من النازحين واللاجئين، وانهيار أكثر القطاعات الاقتصادية انتاجية.
المصدر: المدن