أيمن أبو هاشم
رغم توثيق أكثر المذابح والمجازر الجماعية، التي ارتكبتها قوات النظام والميليشيات الحليفة لها، بحق المدنيين الأبرياء في مختلف المناطق السورية، منذ بداية الثورة السورية وحتى تاريخه. غير أن العديد من تلك المجازر، لم يتجاوز ما تسرب عنها، سوى النذر اليسير وفق المعلومات المتداولة عنها. بوسعنا تصور أمثلة عديدة عن مجازر من هذا النوع، طالت أعداد كبيرة من الضحايا، وتم ارتكابها تحت ستار الكتمان، وتشتيت مسرح الجريمة بهدف طمس معالمها. تشكل مجزرة حاجز علي الوحش، التي ارتكبها النظام بالتعاون مع ميليشيات مذهبية حليفه له، بحق حشد بشري كبير من سكان الأحياء المحاصرة في جنوب دمشق، بتاريخ يوم الأحد الموافق 5/ 1/ 2014، مثالاً صارخاً على توزيع القتلة لمسرح الجريمة بين أكثر من مكان، كي يصعب إحصاء العدد الفعلي للضحايا. كل ما تم الحديث عنه وقتها، كان يدور عن (250) ضحية، تم تصفيتهم على يد عناصر الحاجز، الذين رموا أعداداً منهم في مكب للنفايات قرب الحاجز، فيما شوهدت جثث أخرى ملقاة في البساتين الممتدة بين سبينة والحجر الأسود.
منذ وقوع تلك المجزرة الرهيبة، قلّما تسربت أخبار أو معلومات عن مصير بقية الضحايا، وهم أغلبية المدنيين الذين تجمعوا يوم المجزرة، بهدف الخروج من جحيم الحصار والجوع إلى مدينة دمشق، بعد إعلامهم قبل وقوعها بثلاثة أيام؛ أن طريق خروجهم سيكون آمناً، وفق تعهدات قدمها أشخاص مقربون من النظام. ثمة أسباب وعوامل عديدة حالت دون معرفة مصير أولئك المغدورين في ذلك اليوم الأسود، يمكن أن نستقيها من الحيثيات والمعطيات التالية:
أولاً: قيام المسؤولين عن الحاجز، الذي يقع على مشارف منطقة حجيرة، بجمع المدنيين الذين اصطفوا في طابور طويل وصل إلى ساحة الكشك في ببيلا، واعتقالهم عند الحاجز، ثم فرز الشباب عن النساء وكبار السن، ونقل وتوزيع فئة الشباب إضافةً إلى اليافعين، ما بين حاجز معمل الكابلات في سبينة، وحاجز بردى الواقع بين سبينة والحجر الأسود، كخطوة أولى قبل نقلهم إلى الفروع الأمنية، وقد أدت هذه العملية إلى تشتيت الأنظار عن حجم الأعداد التي تم توزيعها على أماكن مختلفة.
ثانياً: السماح للعديد من النساء والأطفال بالدخول إلى دمشق، بعد تعرضهم للضرب والتعذيب والإهانة، وهناك حالات لنساء تم اغتصابهن في جامع السيدة فاطمة الزهراء الواقع قرب الحاجز. وكل الذين دخلوا إلى المدينة اضطروا إلى لسكوت على جرائم الإعدام والتصفية التي شهدوها بحق أزواجهم وأقاربهم ومعارفهم، خشية من الاعتقال، فيما لو تحدثوا بما يعرفون عنها.
ثالثاً: بحكم سيطرة النظام والميليشيات الطائفية الحليفة له، على المنطقة التي حدثت فيها المجزرة، فإن عدم وجود ناشطين إعلاميين، يمكنهم الاطلاع عن كثب على مجريات المجزرة، مما حال دون تكوين وتوثيق صورة شاملة عما حدث خلالها.
توضح تلك الأسباب والعوامل، مدى حرص النظام والميليشيات المتورطة في المجزرة، على التغطية بوسائل مختلفة على واحدة من أكبر المجازر، التي وقعت خلال محطات الثورة السورية، والتي شملت من حيث ضحاياها، لاجئين فلسطينيين من سكان مخيم اليرموك، ونازحين سوريين من سكان الحجر الأسود، ومحاصرين آخرين من أحياء يلدا وببيلا وبيت سحم. بعد نيف وخمس سنوات من وقوع المجزرة، تراكمت عدة شهادات ومعلومات، تم الحصول عليها من بعض المعتقلين، ممن أطلق سراحهم مؤخراً، وكانوا عاشوا فصول المجزرة، ونجوا من الموت تحت التعذيب، الذي كان نصيب أكثرية من اعتقلوا وإياهم يومها.
تميط شهادة الشاب الفلسطيني ( محمود ، ح ، ش ) وهو أحد الناجين بعد اعتقال دام خمس سنوات متتالية، عن حقائق كثيرة تم إخفاؤها حول مصير مئات المعتقلين على خلفية تلك المجزرة، حيث يقول: ” في 5/1/ 2014، وضعوني في غرفة مغلقة قرب الحاجز مع شبان آخرين، وأخذونا معصوبي الأعين في باصات، إلى مكان احتجاز يطلق عليه فرع ميسلون في ضواحي دمشق، وهو في الحقيقة مسلخ بشري بكل ما للكلمة من معنى، مكثت فيه أربع سنوات وثمانية أشهر، قبل إحالتي إلى فرع التحقيق العسكري لمدة شهرين، ثم إلى سجن عدرا ومنه تم إطلاق سراحي في الشهر الأول من عام 2019. في فرع ميسلون كنت أحد المكلفين يومياً مع آخرين بإخراج جثث المعتقلين من المهاجع، ووضعها في سيارات نقل عسكرية مغطاة بشادر، وكان المعدل الأسبوعي لضحايا التعذيب في هذا المسلخ الفظيع، ما بين “50 إلى 60 ضحية “. ويضيف: عرفت تدريجياً خلال تنقلي بين المهاجع، أن نسبة كبيرة من المعتقلين داخل الفرع، أتوا بهم من حاجز علي الوحش في ذلك اليوم المشؤوم وأنا منهم. وفي فرع التحقيق العسكري علمت خلال توقيفي به من معتقلين آخرين، أن أعداداً من معتقلي الحاجز، تم تصفيتهم أيضاً في هذا الفرع الذي كان من نصيبهم، عدا عن أعداد أخرى تم نقلها إلى فرع فلسطين..”
تؤكد هذه الشهادة أن مجزرة حاجز علي الوحش، ارتكبت على مراحل، وأن العدد الأكبر من ضحايا المجزرة، سقطوا تباعاً تحت التعذيب في الأفرع الأمنية التي نقلوا إليها، وأن من تم إعدامهم فورياً يوم خروج المدنيين إلى الحاجز، ويقدرون بحوالي “250 ” ضحية، كانوا النسبة الأقل من العدد الإجمالي للضحايا، علماً أن التغطية الصحفية والإعلامية حول المجزرة، اقتصرت على ضحايا يومها الأول. في حين أن مصير العدد الأكبر، كان التغييب في مسالخ النظام، وعلى قوائم الموت تحت التعذيب الذي حصد غالبيتهم.
تحثنا هذه المجزرة في حلقاتها الجهنمية المتواصلة، على إعادة بناء سياق توثيقي متكامل، لكافة المجازر التي ارتكبها النظام وحلفاؤه، والربط بين أحداثها ووقائعها، في عملية رصد وجمع متواصل للمعلومات والشهادات والأدلة، التي تدين مرتكبي هذه الجرائم المروعة. هذا الجهد ضروري لأمرين (أولهما) الواجب الأخلاقي والإنساني في حفظ حقوق كافة الضحايا، مع التركيز على الحالات التي قد يطويها المصير المجهول، أو التغييب، أو النسيان، (الثاني) توفير قواعد الأدلة والإدانة وفق المعايير القانونية الشاملة، لكافة الجرائم والانتهاكات، واستخدامها الأمثل حين تتاح إمكانيات الملاحقة والعقاب بحق المسؤولين عنها.
المصدر: موقع مع العدالة