د_ معتز محمد زين
كنت قد أشرت في مقالات سابقة إلى أننا مقبلون على أحداث مفصلية وانعطافات تاريخية مهمة ستغير وجه المنطقة جيوسياسيًا وديمغرافيًا وايديولوجيًا تدل عليها العديد من الإشارات. وأن كسر إرادة الشعوب عبر تحييد وتهميش القوى السياسية التي تمثلها والتي وصلت إلى موقع القرار عبر الانتخابات، أو تدمير القوى الثورية التي تمثلها والتي كادت أن تصل إلى الحكم عبر أمواج الجماهير المنتفضة على حكوماتها الوظيفية العميلة أو الخائبة الفاسدة على أقل تقدير، ستتلوه حتمًا أحداثًا مهمة لها بعد تاريخي وايديولوجي وديموغرافي عميق.
رغم ذلك، ورغم وجود القابلية النفسية لتلقي أي خبر أو حدث كبير في هذا السياق – وأعتقد أن الأحداث الضخمة ستتوالى في المرحلة المقبلة – إلا أنني لا أخفي صدمتي من الطريقة الفجة التي تم بها هذا السلوك الوقح عندما وقع ترامب على وثيقة تثبت سيادة الكيان الصهيوني على الجولان السوري المحتل منذ 1967. المسألة أوضح من حاجتها لشرح أو بيان. معتوه يقدم أرضًا لا يملكها للص. وصاروخ واحد من كتائب القسام يصيب هدفًا استراتيجيًا أبلغ من ألف مقالة. لكنني سأعلق ببضع ملاحظات متفرقة تضيء على الحدث من بعض جوانبه.
1- هذا الوعد هو تكرار لوعد بلفور المشؤوم وبعد حوالي قرن منه تقوم به ذات الجهة – الغرب الاستعماري – بتقديم أرض عربية لا تملكها إلى ذات الجهة – الصهاينة المحتلين – دون أي اهتمام للرأي العام العالمي أو رأي أصحاب الأرض في حركة بلطجية تشبيحية على أعلى مستوى.
2-إضافة إلى دلالته السياسية فإن هذا الوعد يمثل صفعة قوية على وجه الحكومات العربية عمومًا والحكومة السورية وما يسمى محور الممانعة بشكل خاص ويدل على مدى الإهانة والاذلال الذي يمارسه الغرب في تعاطيهم مع ” أصحاب القرار ” في المنطقة إلى درجة عدم إعطاء أي أهمية لردات الفعل المحتملة من قبلهم.
3-إن استعمار الشعوب هو مكون جوهري من مكونات السياسة الغربية وشريان رئيسي لضخ الروح في جسد مجتمعاتها التي تعيش على ما تنهبه حكوماتها من دولنا، ولا يمكن لكل أقنعة الديمقراطية والحريات وحقوق الانسان أن تحجب هذه الحقيقة أو تخفيها.
4- إن القانون الحقيقي الوحيد الذي يحكم هذا العالم في ظل النفوذ الغربي هو قانون القوة، وإن كل شعارات الغرب القائمة على أسس أخلاقية أو إنسانية أو حقوقية ليست إلا أدوات استهلاكية لاختراق الشعوب والتغلغل فيها وتفكيكها في سياق السعي للسيطرة عليها.
5- لا يمكن التعويل على الطبقة الحاكمة العربية الحالية من أجل تحرير الأراضي المحتلة أو استرجاع حقوق الشعوب المغتصبة لأنها حكومات وظيفية تعمل وفقًا للخطة المرسومة لها، أو عاجزة تخشى على عروشها من شعوبها الغاضبة.
6- لو كان في الطبقة الحاكمة بقايا مروءة أو كرامة أو وطنية لجعلت من هذه الأحداث الكبيرة فرصة لتجاوز الخلافات التافهة والحروب البينية غير المبررة وتوحيد القوى من أجل التصدي لتلك الهجمة التي ستحرق الأخضر واليابس في المنطقة، وكانت عملت على احتواء قوى التحرر ودعمها كرأس حربة في معركتهم مع أعداء الأمة بدل العمل الدؤوب على حصارها وخنقها وتفكيكها والقضاء عليها خدمة لذات ” الأعداء “.
7- لا يمكن (بناء على ذلك) تحرير الأرض من الكيان الصهيوني إلا بعد تحرير الشعوب من الكيانات الوظيفية التي تحكمها. ومن أجل ذلك تعلقت آمال الشعوب يومًا بالربيع العربي. ومن أجل ذلك أيضًا عملت القوى الغربية الاستعمارية – عبر أدواتها – على إجهاض هذا الربيع.
8- إن ما يسمى محور الممانعة هو كذبة كبيرة كان الهدف الأساسي منها إجهاض كل حركات التحرر وتهميشها تحت ستار تنظيم حركات التحرر، فهذه الجولان وقبلها القدس قد سلمت علنًا دون أن تهتز عمامة حسن نصر الله أو معممي إيران. ويبدو أن صواريخ – ما بعد بعد حيفا – كانت وما زالت مخصصة للزبداني والقصير وحلب وادلب وحمص.
إن وعد ترامب المشؤوم هو حلقة من سلسلة طويلة من المؤامرات والتنازلات والانهيارات التي ستشهدها المنطقة – على المستوى السياسي والاجتماعي والأخلاقي والفكري والايديولوجي – في المستقبل القريب في ظل الفوضى السياسية والتفكك الاجتماعي والتحلل الأخلاقي والترهل الفكري الذي تعيشه المنطقة. وإن تحطيم هذه السلسلة وكسر تلك الحلقات يحتاج قبل كل شيء إلى جبهة داخلية متماسكة حرة تقودها قوى حية مستقلة تحركها هموم شعوبها وطموحات أمتها.
الجولان عربية. وستبقى عربية. وسيبقى المحتل غريبًا عن ترابها وهوائها مهما طال الزمن. لكن تحرير الأوطان لا يمكن أن يتم دون تحرير الانسان.
المصدر: صحيفة إشراق