سعد الشارع
أدى انسحاب واشنطن من الاتفاقية النووية مع إيران، وما تلاه من زيادة النشاط العسكري الإسرائيلي في سوريا، ثم إعلان وزير الخارجية الأمريكي بومبيو عن شروط الولايات المتحدة لوقف إجراءاتها ضد إيران، إلى فتح تساؤلات حول مستقبل نفوذ إيران خارج حدودها، وحول الكيفية التي يمكن لإيران أن تعمل من خلالها على تجنّب خسارة المكتسبات التي حققتها في سوريا.
تشير إحصائيات غير رسمية إلى أن عدد عناصر المليشيات التابعة لإيران، سواء كان مقاتلوها من الجنسية الإيرانية أو غيرها، يصل إلى أكثر من ثمانين ألفاً، يتوزعون على نحو 67 تشكيلاً عسكرياً، وينتشرون في معظم الجغرافية السورية التي يُسيطر عليها النظام السوري. ذلك بالإضافة إلى تزايد التأثير الإيراني في مكاتب صنع القرار السياسي، وفي الأجهزة الأمنية، إذ سعت إيران إلى تثبيت نفوذها عبر شخصيات وضباط موالين لها في الجيش، وعبر إنشاء مليشيات محليّة (سوريّة) مرتبطة بها، مثل كتائب البعث، والمغاوير في محافظة الحسكة شرق سوريا. وعلى الصعيد الاقتصادي، بات الحضور الإيراني بارزاً من خلال الاتفاقيات الخمس التي تمّ إبرامها بين البلدين في يناير/ كانون الثاني 2017، والتي تُعطي طهران امتيازات واسعة في السوق الاقتصادي. وربما يكون الأخطر هو تمدد النفوذ الاجتماعي لإيران في سوريا، عبر استغلال حالة التفكك في بنية المجتمع وتردي الأوضاع الاقفتصادية والأمنية جراء سنوات الحرب والأثر الذي خلّفه تنظيم داعش.
تكللت جميع المكتسبات الإيرانية السابقة بالطريق البري الذي يربط طهران بدمشق مروراً ببغداد، ومنها يصل إلى بيروت على المياه الدافئة في البحر المتوسط. وإذا كان هذا الطريق ليس مؤمناً تماماً حتى اليوم بسبب عدم استقرار سيطرة إيران في الشرق السوري والبادية، إلا أن تأمينه ليس أمراً بعيد المنال جداً.
أمام الضغوطات السياسية والاقتصادية والعسكرية، تجد طهران نفسها الآن على مفترق طرق؛ إمّا التمسك بنفوذها كلّه في سوريا، وبالتالي سيكون الصدام حتمياً مع إسرائيل والحلف غير المعلن الذي بدأ يتشكل مع الولايات المتحدة الأمريكية ودول إقليمية (السعودية، الإمارات)، وهو الصدام الذي قد لا يأخذ شكلاً عسكرياً بالضرورة، وإن كان ملمحه الأبرز حتى الآن هو الغارات الإسرائيلية، بل قد تحتل الضغوطات الاقتصادية الموقع الأهمّ فيه؛ أو أن تُذعن الحكومة الإيرانية لرغبة تيارٍ إصلاحي يتعالى صوته بضرورة العقلانية في التعامل مع الخطر المحدق. وفي كلتا الحالتين، ستكون منظومة النفوذ الإيراني في المنطقة معرضة لزعزعة قوية، قد تُفضي إلى خسارات جزئية قاسية.
في المدى المنظور، لا يبدو أن طهران ستذهب كليّاً في أحد الخيارين، بل ستسعى على الأرجح إلى امتصاص اندفاع إسرائيل على وجه التحديد، وتبدأ بحلول جزئية، من شأنها خلق مسارات تفاوضية أكثر قبولاً، ولعلها تبحث حالياً عن نمط جديد من الشراكة مع روسيا، التي تململت بدورها من نفوذ طهران في الملف السوري، دون أن يعني هذا أن هناك احتمالاً لانفراط الشراكة بين الطرفين نهائياً، لأن ظروف الساحة السورية تبقى مهيئة للانفجار من جديد، ولأن الثنائية العسكرية التي تشكلت خلال السنوات الثلاث الأخيرة بين الطرفين (المليشيات الإيرانية على الأرض، وسلاح الطيران الروسي) هي التي قلبت الموازين، ومنحت النظام السوري نسبة الاستحواذ الأكبر على الجغرافية السورية، ولا يبدو أنه يمكن لأي من الطرفين التخلي عنها.
وبالفعل بدأت إيران باتخاذ عدة إجراءات تُنبئ ببداية تغيّر شكل تواجدها العسكري في سوريا، إذ قال السيد أحمد وضاح للجمهورية، وهو ناشط إعلامي في مخيم الركبان قرب قاعدة التنف على الحدود العراقية السورية، إن الطريق البري الذي يصل سوريا بالعراق جنوب محافظة دير الزور، شهد مرور أرتال حافلات تقلّ عناصر من المليشيات عائدة إلى العراق خلال الأيام الماضية. وقد تكرر المرور العكسي لهذه الحافلات، حتى في ظل التهديد الذي يُشكله داعش في البادية السورية.
مصدرٌ عراقيٌ مطلّعٌ على أوضاع الميليشيات العراقية التي تقاتل في سوريا بإمرة إيران، أفادنا من جهته بأنه منذ بداية شهر أيّار/ مايو الحالي انخفض معدل الإرسال العسكري القادم من العراق بنسبة كبيرة جداً، ولأول مرة منذ سنوات يُسجّل معدّل الإجازات (إحالات العودة) رقماً قياسياً. كما أكد المصدر العراقي في السياق نفسه أن طائرة (إليوشن 67) التي تهبط في مطار دمشق الدولي قادمة من مطار طهران، محمّلة بعناصر لفيلق القدس، كانت تهبط بمعدل 4 رحلات أسبوعياً، لكن رحلاتها انخفضت خلال الأسبوعين الأخيرين إلى رحلتين فقط.
تنقسم القوى العسكرية التابعة لفيلق القدس إلى ثلاثة شرائح رئيسية، دون الأخذ بعين الاعتبار التقسيمات الفصائلية، وتتكون الشريحة الأولى من الكوادر التقنية والعسكرية المنضبطة، والثانية الأكثر عدداً هي ما تُسمى بـ «الملحمية» أي القوى العسكرية الفاعلة، أما الشريحة الثالثة، فهي الأقرب إلى توصيف المرتزقة، إذ تتكون من مقاتلين من جنسيات عراقية وأفغانية يعملون بعقود شهرية أو سنوية.
الشريحة الثالثة هذه، هي التي يتمّ إخلاء مواقعها حالياً وإبعادها خارج سوريا وفق المعلومات التي حصلنا عليها، وخاصةً في الجنوب السوري، وهو ما يلتقي مع أنباء أكدها لنا ضابطٌ في قيادة الجبهة الجنوبية للجيش الحر، تفيد بأن مواقع المليشيات الإيرانية وحزب الله على جبهات سجنة والمنشية داخل درعا البلد، وفي بلدتي خربة غزلة وعتمان، قد أخليت لصالح عناصر من النظام السوري، في دلالة على ابتعاد طهران عن المناطق القريبة من الاحتلال الإسرائيلي.
قد تشهد المرحلة المقبلة تسارعاً في وتيرة الأحداث العسكرية المتعلقة بأذرع إيران في سوريا، تدفع طهران لإنقاص عدد المليشيات والعناصر بشكلٍ تدريجي قد يصل خلال الشهرين المقبلين إلى نسبة 30% بحسب بعض التقديرات، خاصة أن الحاجة ملحّة حالياً لضبط وضع المليشيات في العراق، بعد تقدم قائمة «سائرون» المدعومة من التيار الصدري في الانتخابات العراقية، ما زاد من التنافس داخل البيت الشيعي في العراق، الأمر الذي قد يُجبر حزب الدعوة الذي يُشرف عبر قياداته على معظم المليشيات العراقية التي تقاتل في سوريا على تحجيم عددها، نظراً لحاجته الآن لإظهار قوته وصلابته أمام التحالفات القادمة.
يمكن القول إذن إن الطريق الذي يمتد من مدينة تدمر وسط سوريا، نحو الشرق باتجاه الحدود العراقية (وادي الوعر)، والذي يقع جنوب محافظة دير الزور بنحو 35 كم تقريباً، سوف يشهد حركة متزايدة خلال الفترة القادمة، ويمكن أن تبدأ إيران بسحب جزء من المليشيات (الأرجح أن يتم سحب مجموعات من داخل كل مليشيا، وهذا مرجّحٌ أكثر من أن يتم سحب ميليشيا كاملة، لما سيحدثه ذلك من ضجة إعلامية في إيران والعراق على وجه التحديد). وغالباً فإن جبهات درعا، ونقاط الارتكاز في حلب المدينة، وأطراف شرق حمص، هي المرجحة أكثر من غيرها لتبدأ طهران بسحب المليشيات منها.
لكن السؤال الأهم، هل ستحمي هذه التحركات الجزئية إيران من الخطر المحدق؟ الإجابة ليست مرهونة بالملف السوري طبعاً، بقدر ما هي مرهونةٌ بالتفاهمات التي يمكن أن تسعى طهران لإبرامها مع الولايات المتحدة الأمريكية حول الملف النووي تحديداً، وأيضاً بمجمل الأوضاع الإقليمية والدولية. لكن يبقى أن ما يحدث الآن هو بدايةٌ لتغيّر خارطة وموازين النفوذ في سوريا، ربما لن تظهر آثاره إلّا على المدى الطويل.
المصدر: الجمهورية