علي العبد الله
أثار تطور العلاقات الروسية – الإسرائيلية؛ والتنسيق السياسي والميداني على الساحة السورية، كما عكسته كثرة زيارات رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لروسيا، وصفها الإعلام الروسي بالكثيفة، وزيارة الرئيس الروسي ومسؤولين رفيعي المستوى لإسرائيل، والتفاهمات المعلنة بين الطرفين، أثار أسئلة بشأن طبيعة هذه العلاقات والمستوى الذي يمكن أن تبلغه، أهي علاقات استراتيجية راسخة ومديدة، أم علاقات منفعة متبادلة مؤقتة وقابلة للاهتزاز والتشقق؟
لم تكن العلاقات الروسية الإسرائيلية وثيقةً أو متينةً، فقد سبق وأن لعبت إسرائيل دورا ضد المصالح الروسية في الملف الجورجي، عبر تقديم تدريبات للجيش الجورجي وأسلحة وذخائر خلال المواجهة الروسية الجورجية عام 2008، الأمر الذي دفع روسيا إلى تهديدها، إن لم تتوقف عن مد جورجيا بالسلاح، فإنها ستمد أعداء إسرائيل بأسلحة هجومية، ما اضطر رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، إيهود أولمرت، لوقف دعم جورجيا وزيارة موسكو لرأب الصدع وتسوية الموقف.
انتقلت الدولتان، مع تشكيل حكومة يمينية برئاسة بنيامين نتنياهو عام 2009، إلى التعاون والتنسيق، خصوصاً بعد اندلاع ثورات الربيع العربي عام 2011، في ضوء تطابق وجهات نظرهما في الحراك الشعبي العربي، ومستقبل الإقليم في حال انتصار هذه الثورات، وقد تكرّس التعاون وتكثف أكثر بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في الصراع في سورية وعليها، سبتمبر/ أيلول 2015، عكسته كثرة لقاءات بوتين ونتنياهو، إذ التقيا 11 مرة خلال عام 2015، والاتفاق على آلية عمل سياسية وعسكرية رفيعة المستوى: الرئاسة ووزارتا الدفاع ورؤساء أجهزة الاستخبارات، لتحاشي التصادم والدخول في اشتباكات غير مقصودة.
جمع بينهما حذرهما ومخاوفهما من الحراك الشعبي، فقد أثار بروز التيار الإسلامي، المعتدل والجهادي، هواجس روسيا ومخاوفها من انتقاله إلى جمهوريات آسيا الوسطى؛ ما يفسح مجالاً للغرب للعب في الخاصرة الرخوة للأمن القومي الروسي؛ بينما تحرّكت هواجس إسرائيل ومخاوفها من حصول تغييرٍ ثوري عند حدودها، يقيم أنظمة تعاديها، وتعمل على مواجهة سياساتها الإقليمية. لذلك اتفقتا على معارضة التحول الديمقراطي في الإقليم؛ وعلى العمل على صياغة بيئةٍ إقليميةٍ مؤاتيةٍ عبر التعاون وتنسيق السياسات. وقد زاد في تعاونهما اتفاقهما على تقليص الدور الإيراني، كل لحساباته الخاصة، في سورية؛ فروسيا تريد الكعكة السورية كاملة، وترى في إيران شريكا مضاربا؛ لكنها، في الوقت ذاته، لا ترغب في إنهاء الدور الإيراني بالكامل، في ضوء حاجتها للقوات الإيرانية والحليفة لموازنة قوى الخصوم، من جهة، واستثمار عملية إضعاف دورها وإخراجها من سورية في المساومة مع خصوم إيران، الولايات المتحدة ودول عربية؛ وإسرائيل نفسها، وقبض ثمنٍ مناسبٍ لذلك، كالدخول في علاقات عملٍ في مجالات الطاقة والتبادل التجاري، من جهة ثانية. في حين سعت إسرائيل إلى احتواء النفوذ الإيراني، قبل أن تتبنّى إخراج إيران من سورية. مثّل هذا التباين نقطة تقاطعٍ وتعارضٍ بينهما، إذ وافقت موسكو على الضربات الإسرائيلية للمواقع الإيرانية، بما في ذلك المنتشرة في العمق السوري، وعلى دعوة نتنياهو إلى إخراج كل القوات الأجنبية من سورية؛ اتفقت معه على تشكيل مجموعة عملٍ لمتابعة تحقيق هذا الهدف، من جهة، ودافعت، من جهة ثانية، عن شرعية الوجود الإيراني في سورية، وضغطت، في الوقت نفسه، على إيران، من أجل إبعاد قواتها والمليشيات التابعة لها عن حدود الجولان السوري المحتل. وقد شكّل إعلان الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، سحب القوات الأميركية من سورية دافعا إضافيا لإسرائيل لتمتين علاقاتها مع روسيا، فباتت ترى أن الموازنة مع خصومها وتحقيق أهدافها على الأرض السورية، خصوصاً احتواء الخطر الإيراني، وإخراج إيران من سورية، تمر بالاتفاق مع روسيا والتوافق معها.
لعبت المنطلقات السياسية المتقاربة، وإدراك كل منهما أهمية الدولة الأخرى بالنسبة لمصالحها؛ في منطقة مهمةٍ وبيئةٍ شديدة التعقيد، دورا مركزيا في التقارب السياسي والتعاون الميداني، فالمنطلقات السياسية للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، تعتمد “سياسة واقعية غير أيديولوجية، سياسة متحرّرة من المخاوف القائمة على القيم، تعتنق عقلية الحصار، فهما يضعان الأمن في مقدمة سلّم أولوياتهما، والنظر إلى السلطة نظرة عسكرية في المقام الأول”، وفق الباحثة ليديا أفربوخ والدكتورة مارغريت كلاين في مقالتهما “الصراع في سورية يرسم معالم العلاقات الروسية – الإسرائيلية” التي نشرها المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، ونقلها موقع “فنك” للدراسات في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، فالسياسة الواقعية التي تحددها المصالح جعلت بوتين يرى في التعاون مع إسرائيل فرصة إستراتيجية، فهي، ومن موقعها في الغرب، تخفّف درجة عزلة روسيا وتحسّن صورتها دوليا، ومن تطوّرها التقني، تعوض النقص في التقنية المتطوّرة الذي ترتّب على العقوبات الغربية التي فُرضت على روسيا بعد هجومه على جورجيا عام 2008 وزيادتها وتوسيعها بعد عمليته في أوكرانيا، وضمه شبه جزيرة القرم عام 2014، (عقدت اتفاقيات تعاون بين الشركات الإسرائيلية ومعاهد البحوث الروسية مثل معهد روس نانو، الحكومي لتكنولوجيا النانو، في عام 2012، ومركز الابتكار الروسي (سكولكوفو) في عام 2016، كما اشترت منها طائرات من دون طيار (12 طائرة) تلقى ضباط روس تدريبات على تشغيلها على أيدي ضباط إسرائيليين)، وضرورة تحاشي قدراتها العسكرية، أقوى دولة في الشرق الأوسط، حيث يمكنها، في حال تجاهل مصالحها، تعقيد الوضع العسكري لروسيا في سورية تعقيداً كبيراً بخلخلة التوازنات والترتيبات الميدانية التي صاغتها، وإجهاض المكاسب السياسية والعسكرية التي حققتها في الملف السوري، وجعلت نتنياهو يرى في التعاون مع روسيا ضمانة لتحقيق أهدافه في سورية: منع نقل أسلحة استراتيجية إلى حزب الله، ومنع اقتراب الحرب من “حدود إسرائيل”، ومنع وجود إيراني طويل الأمد على الأرض السورية، والعمل على استقرار الوضع في سورية بشكل يسمح بوجود عنوان للدولة، ما يتيح تخطيط السياسة والتعامل مع كيان محدد المعالم. وهذا دفع إسرائيل إلى التعاطي مع السياسة الروسية في سورية والعالم بشكل تستجيب لمصالحها السياسية والأمنية، وأعلنت (إسرائيل) حيادها في الصراع السوري؛ وأنها لا تريد أن تكون شريكا في صياغة مستقبل سورية، وأن هدفها فيها مواجهة الوجود الإيراني لا إسقاط النظام، وغض النظر عن الجرائم التي ارتكبتها روسيا في سورية بقتلها المدنيين واستهدافها المنشآت الصحية والتعليمية والأسواق الشعبية بقنابل محرّمة دوليا، وتفهمها المصالح الروسية في جوارها الجغرافي، دول الاتحاد السوفياتي السابق، وعدم الاكتفاء برفض المشاركة في العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على روسيا، بعد ضمها شبه جزيرة القرم، وزعزعتها استقرار منطقة دونباس الأوكرانية، بل واستثمرت في القرم بشكل صادم.
وجدت روسيا، الراغبة في تقوية وضعها السياسي والعسكري وتمكينه في منطقة الشرق الأوسط والعالم، في التعاون والتنسيق مع إسرائيل، فرصةً لاختراق العزل الغربي ومدخلا للتأثير عليه للتخلي عن عزلها والقبول بدورها أو تحمل تبعات عزلها وسياساتها في مناوأة سياساته، ودعمها في توجهها لتشكيل نظام سياسي سوري جديد. ووجدت إسرائيل في التعاون والتنسيق مع روسيا فرصة للظهور دولة مستقرة وذات مصداقية في الإقليم، ولاعباً سياسياً مهماً ومؤثراً في ميزان قوى الشرق الأوسط، ما شكل أساسا للتفاهم والتعاون الكبير والعميق. وقد ساعد في تحقيق هذين التقارب والتعاون وجود أساس اجتماعي وثقافي، ترتب على وجود كتلة روسية وازنة في التركيبة السكانية الإسرائيلية: 15% من إجمالي عدد سكان إسرائيل، و25% من سكانها اليهود.
لكن، وعلى الرغم من عمق التفاهم ومستوى التعاون بين الدولتين، لم تبلغ العلاقة بينهما درجة تحولها إلى تحالف استراتيجي، في ضوء حقيقتين جوهريتين: أولوية إسرائيل التحالف مع الغرب، الولايات المتحدة خصوصا؛ كونها الحليف الدائم والموثوق، وعدم التردّد لحظة في اختيار الصف الذي ستقف فيه في حال نشوب مواجهة سياسية بين روسيا والغرب، وانطلاق روسيا في علاقتها مع إسرائيل من اعتبارها عنصراً من معادلةٍ مركّبةٍ تقوم عليها سياستها في الشرق الأوسط، إذ لا يمكنها حصر علاقتها في طرف واحد في منطقة مهمة وخطيرة في آن. وهذا يجعل العلاقات الروسية الإسرائيلية قويةً، لكنها ليست إستراتيجية.
المصدر: العربي الجديد