من حمص العدية التي تتوسط سوريا، لتكون السرة التي تربط جهاتها الأربع، خرج منها عبد الباسط الساروت، أحد الوجوه الشابة التي انخرطت بالثورة السورية منذ بدايات حراكها السلمي. لفت الأنظار والألباب منذ طلوعه البهي في ساحات الحرية، وهو يهتف ويغني ويُشعل الحماس في قلوب المتظاهرين. يحملونه على أكتافهم، ويرددون معه أناشيد الثورة في أزهي أيامها. كانت مفرداته ولغته وطريقة تعبيره، تعكس الحس الشعبي السوري، بلا مواربة أو تكلّف، وتجسد روح الوطنية السورية بكل عفوية وبراءة وحب. يرى في الثورة خلاصاً سورياً أزفت ساعته، ومع ولوغ النظام في قمع وقتل الثائرين، كان عبد الباسط يتشبث أكثر بأرضه وثورته وأهله. بوصلته واضحة كنصل السيف، لا عودة عن إسقاط النظام في وعيه ووجدانه، مجبراً كغيره من شباب البلد على حمل السلاح دفاعاً عن حقهم بالحياة، ودفاعاً عن حلمهم بالخلاص من هذا النظام الغادر. كلما سقط شهيد من أصدقائه وإخوته ورفاق دربه، زاده ذلك تصميماً وعنفواناً على السير بين الأهوال والخطوب والأوجاع. يقاتل كي يفك الحصار عن أهل مدينته، ويقف في المقدمة مقاتلاً شرساً على الجبهات وخطوط التماس، ولا يأبه للموت الذي نجا منه مرات ومرات، بعد أن تركت الجراح آثارها في جسده، ولكل جرحٍ حكاية ومعركة ومأثرة. فلا مكان لليأس في روح الباسط المشبوبة، حتى وهو في أشد حالات القهر والخذلان.
بقيّ الساروت على طول الدرب حنجرة الثورة ونبضها الحر وفارسها المقدام. قابضاً على جمر الثورة في كل محطاتها وانكساراتها، يبحث عمّا تبقى من أمكنة محررة، كي يعيد الكرّه في قتال عدو الشعب. لا يهادن ولا يساوم ولا يتراجع عن هدفه قيد أنملة. أفعاله تصادق أقواله، ومناقبه تؤكد زهده ونبله وشجاعته. لم يلهث وراء منصب أو جاه أو خلاص فردي، التصق بالأرض كنخلة برية سامقة، ترتوي بحب الناس وثقتهم بهذا الشاب الحر الوفي. أحبه السوريون وهو يحاكي بصوته الشجي أحزانهم وآمالهم، وتربع في وجدانهم حارساً لدماء كل الشهداء وليس فقط دماء إخوته الأربعة، يمضي على هدى ضميره في معاقل الثورة وساحاتها، ومن عيون أطفال الحصار والتهجير والمخيمات يستقي العزم والثبات والأمل.
عاش الساروت حراً، تجري الثورة في شرايينه، ويتدفق التحدي في كل خلجاته. يدير ظهره لكل ترهات السياسة وألاعيبها، فقد تعلم من أهله الطيبين أن الواقعية محض وفاءً للفقراء والبسطاء، ومحض انحياز للحق مهما كلف الثمن، وأدرك بفطرته البدوية النقية، أن البلاغة ليست في الشعارات المنمقة الخالية من المشاعر، بل هي لغة القلوب الدافقة بالخير وبالعطاء.
في حياته القصيرة والغنية أكثر من أعمارٍ بطولها، حفر الساروت اسمه في ضمير الشعب، سورياً شامخاً لا ينام على ضيم، ولا يركع إلا لله، وبروحه الطليقة من كل القيود، كان يظلل بأجنحته سوريا الجريحة، ويروي فصول ومسيرة الثورة اليتيمة كما لم يفعل أحد. واصل مشواره التليد حتى النفس الأخير، لم يسترح كمقاتل نذر نفسه للثورة حيثما اقتضى واجب الدفاع عنها، ولم يخذل حمص ولا حماه ولا أي ذرة من تراب سورية المحتلة. استشهد الساروت أخيراً كما توقع في كل معركةٍ خاضها، ودائماً كانت وصيته الأولى والأخيرة” لا تُضيعوا دماء الشهداء”.
نام الثائر بعد كل هذا التعب والشقاء، وأيقظ استشهاده كل آبار الحزن والغضب، ومن دمه توهجت الثورة كأنها البدايات الأجمل، وبكت سورية الثكلى ابنها البار ورمزها الوفي وأيقونتها الخالدة. أحيت سورية ذكرى شهداءها جميعاً في عرس الساروت، وفي حضرة وداع حارس ثورتها وأحلامها، توحد أبناءها الأحرار في ساحات الجلجلة، وتعالت أناشيد البطل كل الديار والأمصار، وكان الدرس السوري الأكبر، في عظمة هذا الشعب الأبي، الذي لا تخطئ بوصلته، ويعرف الفارق بين السائرين على طريق الحق، والهائمين على طريق الضلال.
في رحيل الساروت كأن قيامة الثورة تولد من جديد، وعلى عهد شهيدها البطل تتوهج شعلتها، وتتوقد في نفوس الشباب جذوة التحدي والعنفوان، التي سقاها الساروت وكل شهداء الحرية بدمائهم الطاهرة، فهذه الثورة التي ضحى من أجلها خيرة أبناء سورية، وفيها سالت شلالات من الدماء والدموع، باقية ومستمرة لامحالة حتى سقوط عصابة الإجرام، وتحرير سوريا ونيل الحرية والكرامة.