إرجاء المشكلات المزمنة التي أصابت المجتمع السوري بمختلف جوانب حياته، حتى يتم الاتفاق النهائي حول طبيعة الحل الدولي والإقليمي للقضية السورية، لا يعني ذلك سوى تمادي حالة الاستنزاف والخراب التي ستأكل ما تبقى من مقومات بقاء الوطن السوري، وتآكل ما تبقى من قدرته على النهوض مجدداً. من الخطورة القصوى على مستقبل سوريا وكيانها الوطني، استمرار النظام الأسدي الفريد بإجرامه الدموي، وتدميره الممنهج، في تقويض وإفناء كل ما يرمز إلى حياة السوريين، ومواصلة حلفائه الروس والإيرانيين دعم مخططه في إحراق البلد، وبيع مواردها وحقوق أهلها لقوى الاحتلال والهيمنة الخارجية. بعد ثمانية سنوات ونصف من هذا الصراع المروّع، انهارت معظم البنى التحتية في سوريا، من مدارس ومشافي ومراكز صحيّة ومحطات كهرباء ومياه وصرف صحي وغيرها.
إذ لم يقتصر الأمر على استهداف تلك البنى في المناطق المحررة، أو التي أعاد النظام بسط سيطرته عليها بعد تدميرها، بل إن استحكام الفساد المعمم في مختلف مرافق ومؤسسات النظام في المناطق الخاضعة لسيطرته، أدى كذلك إلى فشل ذريع في إدارة شؤون الناس الواقعين تحت سلطته بصورة مباشرة. تكشف التقارير والاستطلاعات الدولية تباعاً عن مؤشرات الانهيار والفشل في الدولة السورية التي صادرها النظام وأحكم قبضته الأمنية عليها، وما نجم عنه من تضخم واقع البؤس والفقر والإملاق الذي يعيشه المواطن السوري. لم يكُ مستغرباً أن تُمسي سورية وفق تلك التقارير( العاصمة دمشق ) من أسوأ الأمكنة في العالم التي تفتقد لشروط الحياة الآمنة والصحية والبيئية، وأن تصل جامعاتها إلى الدرك الأسفل وفق المقاييس العالمية في تقييم جودة التعليم والبحث العلمي، وأن تصل مستويات الفساد الإداري، والخدمي، والصحي، وتراجع النظام القانوني والقضائي، إلى أدنى الدرجات وفق معايير أنظمة الرقابة والشفافية الدولية. هنا لا نتحدث فحسب عن ظواهر تتداعى عن الحروب والصراعات، التي شهدتها العديد من الدول في العصر الحديث، وإنما وهو الأخطر عن سياسات وخطط قام النظام بتطبيقها طيلة السنوات السابقة، كي يفقد المجتمع السوري القدرة والإمكانية على إعادة بناء بلده، خلافاً لسوابق أخرى استطاعت فيها مجتمعات عانت من الحروب، أن تتجاوز آثار تلك الحروب، وتشق طريقها نحو الحياة والتطور، كما حدث بعد الحرب العالمية الثانية في (اليابان وألمانيا).
حين يقوم النظام بتدمير قطاع التعليم بمختلف مستوياته، بهدف إغراق جيل سوري بأكمله في ظلمات الأميّة والجهل، فإنه بهذه الجريمة المشهودة التي لا تقل مخاطرها عن جرائم القصف والتهجير والاعتقال، إنما يريد من وراء ذلك القضاء على كل فرص بناء سورية الجديدة، وإعاقة خروجها إلى فضاءات التنمية والتطور والحداثة.
نشير وبتركيز كبير إلى قطّاع التعليم، لأنه القاعدة الأساسية التي دونها لا يمكن العبور إلى مستقبل أفضل، ولا يمكن دون جيل مسلح برسالة التعليم والتنوير من مجابهة تحديّات الواقع السوري، وإعادة إعمار البشر قبل الحجر في بلد استحال على يد مافيا سلطوية حاقدة إلى أكبر مثال مأساوي للفشل والخراب والموت. من المؤلم حقاً، أن كافة الأطر والأحزاب والمؤسسات التي تطالب بإسقاط النظام وتغيير الواقع السياسي والأمني في سورية، ليس لديها مبادرات وخطط طوارئ، لوقف التدهور المتواصل في قطّاع التعليم ضمن المناطق المحررة، والخارجة عن سيطرة النظام. بالتوازي مع النقص الحاد في حجم الاحتياجات المطلوبة لتوفير مستلزمات العملية التعليمية، مع قصور خطط التعليم البديل بسبب تدمير المدارس والمرافق التعليمية، ما يؤكد فداحة الآثار الناجمة عن حرب النظام وحلفائه، لحرمان السوريين من حقهم في التعليم ومتابعة تحصيلهم الدراسي.
في الآونة الأخيرة، وبعد موجة الإجرام المتواصلة للنظام وروسيا منذ خمسة أشهر على أرياف إدلب وحماة وحلب، والتي كان من حصيلتها نزوح أكثر من (900 ألف شخص) عن بيوتهم وقراهم وبلداتهم، وأغلبهم يفترش العراء في المناطق الحدودية. يهلُّ العام الدراسي الجديد وهناك أكثر من (250 ألف طفل) فقدوا بيوتهم ومدارسهم، وتضاف مأساتهم في بعدها التعليمي عدا الإنساني، إلى أكثر من مليوني طفل في الداخل السوري وفي دول اللجوء، أصبحوا منقطعين عن التعليم، نتيجة الحرب والفقر وموجات النزوح القسري المتواصلة منذ عدة سنوات.
لا يمكن إنكار جهود المؤسسات المدنية والأهلية، التي حاولت معالجة وترميم ظاهرة الانقطاع والتسرب المدرسي، لكن غياب الاستقرار، واستمرار نزيف الحرب، وتقليص الدعم الدولي إلى أدنى الحدود. جميعها عوامل تضاعف من مشكلات التعليم وتعقيداته المركبة، وتفرض على كل الهيئات والأطر والأفراد المعنيين في بالشأن السوري، أن يبادروا إلى تقديم رؤى وخطط وأفكار عملية وهادفة، تسهم في التصدي لأزمة التعليم في سورية، والبحث عن صيغ جديدة تتوجه إلى الكادر التعليمي والطلاب المستهدفين، بما يوفر فرص انتظام العملية التعليمية، وتجاوز صعوبات ومشكلات الانقطاع والتسرب الدراسي. وهي مسؤولية وطنية كبرى على عاتق كافة القوى السياسية والمدنية والنخب المثقفة في الداخل والخارج، لأن الفشل في معالجة هذه المسألة الجوهرية التي تتصل بمستقبل البلد، هو الفشل بعينه عن توفير شروط ومتطلبات إعادة استنهاض وبناء سورية الجديدة.
لا حرية ولا تحرر بلا تعليم ولا خلاص حقيقي بلا وعي، ولا مستقبل بلا جيل يمتلك مفاتيح التعامل مع عصر العلم والمعرفة والتكنولوجيا.