أيمن أبو هاشم
أدرك مسبقاً أن الكلام الذي سأقوله لن يُعجب الوسط السياسي والثقافي والمدني والإعلامي المحسوب على الثورة السورية و” أطياف المعارضة”، لاسيما أن تنوعات هذا الوسط، واختلاف نطاق تأثيره، وتعدد أماكن انتشاره داخل وخارج سوريا، ما يستوجب درجة عالية من المصداقية والموضوعية في أي مقاربة أو رأي حول دوره في محطات الثورة السورية ونصيبه من المسؤولية فيما آلت إليه. لكن فتح النقاش حول مشكلات وأمراض هذا الوسط، بات ضرورة ملحة لفهم حقائق العطب الذاتي في التجربة السورية، والتي تضعنا أمام حقيقة مؤلمة، تتعلق بآليات التفكير والممارسة، التي تسمُ فئات واسعة من ذلك الوسط، تكاد أن تشكل طابعه العام رغم الإستثناءات المقصيّة والمهمشة التي تكابد الأمرّين كي تنجو من تشوهاته وعيوبه، ومن أبرز تلك الحقائق المؤلمة :
أولاً : غلبة النزعة المادية والنفعية التي تطغى على “النخب والنشطاء” واستسهال تبريرها بالظروف المعيشية، والدوس على المعايير المهنية والأخلاقية، واتساع مسالك الارتزاق والتكسّب على حساب التمسك بالمبادئ والقيم الثورية النبيلة
ثانياً: توغل منطق الخلاص الفردي، وضمور ثقافة وتقاليد العمل الجماعي، والتغطية على هذه الظاهرة، بالمبادرات اللفظية غير الفاعلة بالواقع، وبالشعارات والاستعراض والمناكفات العقيمة، والتستر على بؤس ونفاق “النخب ” بالتلطي وراء تمجيد أبطال الثورة بمناسبة استشهادهم بعد خذلانهم في حياتهم “لم يخجل الكثير من الفاسدين والشطّار في الركوب على أمثولة الساروت وتضحياته التي توجها استشهاده
ثالثاً: اتساع الفجوة الإنسانية بين المجتمع السوري المنكوب والمهموم والمُفقر في الداخل السوري، و”النخب” التي انفصلت عن واقعه، رغم كثرة عناوينها ومنابرها ومؤسساتها، والتي باتت كغثاء السيل، تتعيش على نكبات أهلها بدل أن تكون صوتهم وضميرهم وحوامل قضاياهم الصغيرة قبل الكبيرة
رابعا: تبرئة الذات من مسؤولياتها، والهروب من مواجهة مشكلاتها، بالدوران في حلقة المظلومية، وإحالة كل نكبات الثورة ونكبات بيئتها الحاضنة، إلى العامل الخارجي، والاكتفاء بالصراخ والعويل على العالم أجمع، وهذا حق لا مراء فيه بسبب حجم التنكر والتخلي عن مأساة الشعب السوري وحقوقه. لكن بالمقابل لا وضوح ولا مكاشفة حول دور “النخب السورية ونشطائها وأربابها” في المشاركة بالفساد والتمويل المشبوه والعمل لخدمة أجندات غير وطنية
خامساً: التناقض الفاضح بين القول والعمل وبين الخطاب والممارسة وبين الانتماء الوطني العام، والحسابات الشخصية والحزبية والمناطقية، وبين رفض وفضح حقبة الاستبداد، الأسدي، فيما نجد بصماتها واضحة في تفكير وسلوك متصدري المشهد السياسي والثقافي والمدني والإعلامي، وليس الأمر حكراً فقط على تجربة الفصائل العسكرية وإفرازاتها من أمراء الحرب
سادساً: تعويض عقد نقص تلك “النخب” بالاستعلاء على بعضها البعض، وبالتصاغر أمام أولياء نعمتها، وإهدار الجهود وتشتيتها في طروحات ومشاريع لا صلة لها باستنهاض واقع الثورة، ولا بالحفاظ على مقومات الهوية الوطنية السورية، ولا بمعالجة المشكلات والتحديات التي تواجه وحدة ومصير الشعب السوري، وإنما البحث عن مكان لها تحت الأضواء مهما كان الثمن
سابعاً: اللامعقولية في المقارنات الصادمة، فهل يُعقل بعد كل هذه التضحيات العظيمة التي قدّمها الشعب السوري، أن تكون هذه حال مؤسسات الثورة والمعارضة، وهذا هو حال القائمين عليها، وأن يبقى الفشل في إصلاحها أو ولادة بديلٍ عنها كأنه قدر لا يتزحزح، بعد كل العجز والاستلاب المعبّر عن واقعها الفعلي
ثامناً: تورم ظواهر الشللية والمحسوبية والمضاربة في العلاقات المهنية والشخصية بين ” النخب المهيمنة على الكار ” ودورها في تصدير صورة سلبية عن الثورة السورية، أبعدت الكثير من أحرار العرب والعالم، عن التفاعل مع قضية عادلة ونبيلة، لكن مفاتيح الولوج إلى دعمها ومساندتها مهترئة وغير موثوقة، فكيف وأن هذه الحالة الشاذة دفعت الكثير من السوريين المخلصين والشرفاء للانكفاء والانزواء بسبب هيمنة وسط معطوب وطارد لأمثالهم
تاسعاً: ما كشفته الثورات العربية وتحديداً أدوار النخب الوطنية الفاعلة في السودان والجزائر وتونس، من فقر الساحة السورية للقيادات والكوادر المؤهلة لقيادة ثورة عظيمة بحجم الثورة السورية، ولم يعد ممكناً تبرير هذا الفقر حد الإملاق في الوضعية السورية، بذريعة إرث الاستبداد المديد في سوريا ودوره في تغييب المجتمع عن السياسة لعقود طويلة، فتجربة سنوات الثورة السورية وبكل زخمها كانت كافية لوحدها لإنتاج جيل قيادي من الكفاءات السورية وما أكثرها بين جيل الشباب، لكن تطفيش تلك الكفاءات هو الحقيقة الأشد إيلاماً
عاشرا : أخيراً ثمة فارق كبير بين الأخطاء والعيوب التي تقع فيها الثورات عموماً، ويكون لنخبها الواعية والمخلصة أدوار ومساهمات في تصحيح مساراتها، وبين ثورات أخرى تورطت بقيادات ونخب فاشلة في الدفاع عنها وفي تثمير تضحياتها وفي العمل المتفاني على تحقيق أهدافها..
ولأن الثورة السورية تستحق قيادات ونخب ونشطاء يرتقون إلى حجم أحلام ومعاناة وتضحيات هذا الشعب الحر العظيم، أعبّر عما أسلفته بكل صراحة ولا أجنب نفسي كأحد أبناء هذه الثورة من المسؤولية، ومن موجباتها أن نضع الخشبة في عيون كل من يسيئون لهذه الثورة، وليكن ذلك من قبيل جلد الذات طالما أن لا فضيحة أكبر من الصمت عن خطايانا.