سيث فرانتسمان ترجمة: علاء الدين أبو زينة
الآن، يحاول القادة الأميركيون الذين يقودون الحرب على “داعش” استخلاص القوات من سورية بطريقة منظمة. ويبدو أن هذا هو الشيء الوحيد المنظم الذي يحدث في سورية.
في الآونة الأخيرة، كان نظام الأسد يندفع للسيطرة على نقاط التفتيش في المواقع الرئيسية، بينما نفذت تركيا هجومها في 15 تشرين الأول (أكتوبر) بعد تسعة أيام فقط من قرار البيت الأبيض إنهاء الحرب الأميركية المستمرة منذ خمس سنوات في سورية. وتقول واشنطن إنها لا تنهي بذلك الحرب على “داعش”، ولذلك، من المحتمل أن تستمر الغارات الجوية -وحتى العمليات الخاصة- في سورية، انطلاقاً من العراق أو أي مكان آخر.
ووجه قرار الولايات المتحدة بالرحيل المفاجئ عن سورية بالشجب باعتباره خيانة، لكنه تلقى بعض الثناء أيضاً لإنهائه العلاقة مع قوات سورية الديمقراطية التي تتهمها تركيا بأنها مرتبطة بحزب العمال الكردستاني. وهذا يعني أن من الممكن النظر إلى قرار الولايات المتحدة بمغادرة سورية من خلال عدسة نقض سياسة حقبة أوباما المتمثلة في العمل مع قوات سورية الديمقراطية بدلاً من الثوار السوريين. ولكن، إذا اعتقد أحد أن الولايات المتحدة تعيد التمحور في اتجاه معارضي نظام الأسد وإيران، فإن هذا ليس واقع الحال. والأسد، وإيران، وروسيا وتركيا، ينقضّون جميعاً للاستيلاء على الغنائم.
لا فائدة من الجدال حول ما الذي كان يمكن أن تكون عليه الأمور في شرق سورية. لقد انتهت الحرب، وعلى الولايات المتحدة أن تقرر ما الذي سيكون عليه دورها بعد سورية. ويمكن أن تصبح هذه نقطة رئيسية في تاريخ السياسة الخارجية للولايات المتحدة -التي تتلخص في “النظام العالمي الجديد” لجورج بوش الابن- حيث تعمد أميركا إلى تحاشي لعب دورها كقوة هيمنة عالمية أو شرطي عالمي، كما شوهد في بعض الأحيان. ويمكن أن يكون لهذا أيضاً تأثير الدومينو، بطريقة تؤدي بالولايات المتحدة إلى فقدان المزيد من النفوذ في تركيا والعراق -وربما في الخليج أيضاً.
دعونا ننظر إلى العقارات التي ستتبقى بعد سورية. تنخرط الولايات المتحدة في حرب ما تزال مستعرة منذ ثمانية عشر عاماً في أفغانستان، والتي وصفها ترامب بأنها “حرب لا نهاية لها”. ولذلك، يريد مغادرة كابول بالطريقة التي غادرت بها الولايات المتحدة سورية. وقد يحدث هذا في أي وقت. فقد تخلت واشنطن عن اتفاق مع طالبان كان المبعوث زلماي خليل زاد يعمل عليه مع طالبان والقطريين. ولكن، ما يزال بإمكان الولايات المتحدة أن تنسحب من دون اتفاق. وسيكون من شأن ذلك أن يفتح أفغانستان أمام النفوذ الباكستاني والروسي، وكذلك الهند وإيران اللتين تتطلعان إلى لعب دور أكبر هناك. كما أن الصين تقع أيضاً على التخوم الشرقية للبلد، وسوف تريد أن يكون لها قول هناك لأن مبادرة الحزام والطريق تفضل الاستقرار في آسيا الوسطى.
في العراق، تعمل القوات الأميركية بدعوة من بغداد. وهذا تحد رئيسي لأن العراق في أزمة وسط الاحتجاجات الأخيرة التي اندلعت في أيلول (سبتمبر)، وأسفرت عن مقتل ما يصل إلى 150 شخصاً. وهناك أدلة على أن القناصة استهدفوا المتظاهرين، وليس من الواضح ما هي الوحدات الأمنية التي أمرت بإطلاق النار. وهذا جزء من مشكلة أكبر في العراق، والتي تتضمن الجدل حول دور إيران في البلد. هناك أحزاب عدة في العراق قريبة من إيران، بما في ذلك ثاني أقوى حزب في البلد، والذي يديره هادي الأميري. وكان الأميري، رئيس “تحالف الفتح”، قد عمل مع الحرس الثوري الإيراني في الثمانينيات من القرن الماضي، وتعد منظمة “بدر” التابعة له عنصراً أساسياً في وحدات الحشد الشعبي -مجموعة الميليشيات الشيعية في أغلبها والتي تشكل قوات شبه عسكرية غير رسمية. ويدير كل من رئيسي الوزراء السابقين؛ نوري المالكي وحيدر العبادي، حزبين سياسيين، وهما منفتحان على دور إيران في العراق. أما بالنسبة لمقتدى الصدر، الذي يُنظر إليه على أنه قومي شيعي عراقي، فقد ذهب إلى طهران في أيلول (سبتمبر) للقاء قائد قوات الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، والزعيم الإيراني الأعلى علي خامنئي.
مع هذه التركيبة للسياسة العراقية والميدان شبه العسكري، من الواضح أنه ليس لدى الولايات المتحدة سوى رابط ضعيف بمستقبل العراق. صحيح أن واشنطن ساعدت في الإيذان بقدوم هذا المستقبل، ولكن يمكن أن يُطلب من القوات الأميركية المغادرة، كما اقترحت بعض الأصوات المؤيدة لإيران. وسيكون من شأن ذلك أن يضعف حكومة إقليم كردستان؛ المنطقة المتمتعة بالحكم الذاتي في شمال العراق والتي كانت شريكاً رئيسياً للولايات المتحدة في تحقيق الاستقرار العراقي. وقد نُظر إلى سقوط قوات سورية الديمقراطية في شرق سورية على أنه سيخلف تداعيات على حكومة إقليم كردستان.
في الخليج، كان عدم قدرة الدفاعات الصاروخية الأميركية والجيش السعودي المجهز بمعدات أميركية على وقف صاروخ الكروز الإيراني وضربة الطائرات من دون طيار لمنشآت بقيق في أيلول (سبتمبر) بمثابة نكسة للمصالح الأميركية. والآن، تتجه المزيد من القوات الأميركية إلى المملكة. وليس من الواضح ما الذي ستفعله هذه القوات هناك؛ حيث يبدو أن إيران تحاول مدّ مجساتها لمعرفة نوايا الإمارات والسعودية. وتعتقد إيران بأن تزويد الحوثيين بتكنولوجيا الطائرات من دون طيار والصواريخ ساعدهم في إذلال السعوديين وتحويل اليمن إلى فيتنام الرياض. وبعد ما يقرب من خمس سنوات، تود المملكة العربية السعودية وحلفاؤها إنهاء النزاع. وهناك مشكلة إضافية بالنسبة للولايات المتحدة، هي أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين زار الرياض مؤخراً، مما عزّز العلاقات السعودية المتنامية مع روسيا. وهذا شأن رمزي لأن بلدان المنطقة أصبحت تتطلع، واحدة وراء الأخرى، إلى بوتين كصانع سياسة متساوق وثابت على الموقف في ضوء السياسة المتعرجة التي تنتهجها الولايات المتحدة.
للولايات المتحدة شريك رئيسي في المملكة الأردنية؛ حيث أجرت مؤخراً مناورة “الأسد المتأهب” مع ثمانية آلاف جندي من حوالي ثلاثين دولة، مما يدل على أن الأردن جزء من حلقة الاستقرار في المنطقة بين الخليج وإسرائيل. لكن الأردن مستاء من “صفقة القرن” التي يعدها دونالد ترامب ومن تهميش السلطة الفلسطينية. ولديه علاقة باردة مع إسرائيل.
تسير العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل بنعومة وبشكل مُرضٍ -تم في الآونة الأخيرة تزويد نظام الدفاع “رافاييل تروفي” الإسرائيلي، بالشراكة مع “ليوناردو”، لدبابة أبرامز الأميركية. لكن بعض المخاوف ظهرت في إسرائيل بسبب تخلي الولايات المتحدة عن الأكراد في سورية. وتساءل البعض: هل يمكن أن تكون إسرائيل هي التالية؟ وتشعر القدس بأنها أصبحت مقيّدة أزاء رغبتها في إزالة إيران من سورية، بينما تبدو إيران ذاهبة من قوة إلى قوة.
وفي لبنان، تواجه الولايات المتحدة مشكلة العراق نفسها. فهي تريد دعم قوات الأمن الرسمية، لكن حزب الله المدعوم من إيران سيستفيد على الأرجح من الاستثمار في البلد.
وفي مصر؛ الشريك الرئيسي منذ عهد كامب ديفيد، أصبح النظام الحالي أقل تسامحاً تجاه النقد. وهو يحارب “داعش” ويدعم خليفة حفتر في ليبيا. وتود واشنطن أن تنسى مشكلة ليبيا، لكن أميركا لعبت دوراً رئيسياً في الإطاحة بالقذافي وخسرت السفير كريستوفر ستيفنز في بنغازي في العام 2012. فهل سيُنسى الدور الأميركي في سورية كما نُسي في ليبيا؟ إذا كان الأمر كذلك، فإنه سيُظهر أن واشنطن تنازلت عن لعب دور في بلد تلو الآخر في المنطقة.
قد تكمن المشكلة الأساسية في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا. ما يزال من المفترض أن يأتي الرئيس التركي إلى واشنطن، لكن العقوبات الأميركية المفروضة على المسؤولين الأتراك قد لا تجعل الطريق ممهدة لتلك الزيارة. ولكن، بغض النظر عن ذلك، تعمل تركيا عن كثب مع روسيا، حيث تشتري نظام الدفاع الجوي S-400 وتجري المعاملات التجارية مع إيران. كما أنها تريد تحدي قبرص والاتحاد الأوروبي في مجال الطاقة في البحر المتوسط. وهي تقود المعارضة للسياسة الأميركية بشأن القدس. وعلى المدى الطويل، لا يبدو أن هناك طريقة لإنقاذ العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا، حتى لو استمرت الدولتان رسمياً في أن تكونا حليفتين.
قد يكون الوضع الحالي في الشرق الأوسط هو الأكثر صعوبة بالنسبة للولايات المتحدة في الذاكرة الحديثة. في الخمسينيات من القرن الماضي، قادت واشنطن معاهدة بغداد. وفي وقت لاحق، وعلى الرغم من النكسات في إيران أو حظر النفط، تمكنت الولايات المتحدة من كسب شركاء مثل مصر. وفي تسعينيات القرن الماضي، كانت الهيمنة العالمية للولايات المتحدة أقوى في الشرق الأوسط. لكن الصراع في العراق استهلك الكثير من الطاقة وأدى إلى الإجهاد بسبب “الحروب التي لا نهاية لها” التي يكرهها ترامب. ومن المرجح أن تعمد الإدارة الأميركية القادمة، سواء قادها ترامب أو أي شخص آخر، إلى تخفيض النفوذ الأميركي أيضاً -أو إبقائه ثابتاً.
ما الذي يمكن فعلُه؟ ستكون تنمية شراكة لتطوير تكنولوجيا الدفاع مع إسرائيل أمراً جيداً لكلا البلدين. وفي الأردن، تساعد التدريبات مثل “الأسد المتأهب” على تدعيم ما تبقى من الشراكات الأميركية في المنطقة وأوروبا. وفي العراق، يبدو أن الخيار الواقعي الوحيد هو تحقيق التوازن مع بغداد من خلال العلاقات الوثيقة مع أربيل وتشجيع حكومة إقليم كردستان باعتبارها مركزاً للاستقرار في ذلك التقاطع الجغرافي الرئيسي بين إيران وتركيا وسورية. وبالنسبة لإيران، لم تقلل حملة الضغط الأقصى التي ينتهجها ترامب من النفوذ الإيراني في العراق وسورية، وتحرص طهران على إظهار قدرتها على التغلب على العقوبات.
تشكل الحرب الأفغانية، على العكس من سورية، حرباً لا نهاية لها حقاً. وقد يؤدي انسحاب الولايات المتحدة من هناك إلى الفوضى، لكن البقاء لا يشكل ممارسة للقوة الأميركية. وقد ورط شركاء آخرون لأميركا، مثل مصر والسعودية، أنفسهم في صراعات، كما هو الحال في ليبيا واليمن، والتي يبدو أن الولايات المتحدة لا تهتم بها. وسوف تواصل كلتا الدولتين الضعيفتين المساهمة في عدم الاستقرار من حولهما.
لا ترغب الولايات المتحدة في لعب دور أكبر في المنطقة، ولذلك يبدو أن عدم القيام بأي شيء هو الخيار الوحيد. وعبر جزء من منطقة الساحل الأفريقي، تشارك الولايات المتحدة في حملات صغيرة لمساعدة الحكومات على استخدام القوات الخاصة التي لديها. وتحقق هذه الحملة نتائج محدودة فقط، لكنها مرتبطة بالمنهجية الكامنة وراء الحرب السورية، المتمثلة في مبدأ “بِ، مع، ومن خلال” السكان المحليين.
تواجه واشنطن الآن احتمال لعب دور متقلص إلى حد كبير في الشرق الأوسط. ولا يمكن استعادة هذا الدور ما لم يلتزم صناع القرار الأميركيون بثبات ببذل المزيد من الجهد. وفي ضوء الانسحاب من سورية، قد تكون هذه لحظة مهمة في تاريخ الولايات المتحدة. فبعد أن تم جلبها على مضض لمحاربة “داعش” في العراق، قاتلت الولايات المتحدة “داعش” في سورية فقط على طريقة “زحف المهمة”. وما تزال هذه المهمة باقية، لكن الجزء الزاحف قد انتهى. وعلى المدى الطويل، تكمن المشكلة في أن معظم دول الشرق الأوسط تتطلع الآن إلى روسيا عندما تفكر في الخطوات التالية. وحتى إسرائيل تجري مناقشات متكررة مع روسيا بسبب دعم موسكو للنظام السوري. وثمة مجموعة مترابطة بشكل فضفاض من البلدان التي تشكل الآن الاتصال الأميركي الرئيسي في المنطقة؛ الأردن، ومصر، وإسرائيل والسعودية والإمارات والبحرين. ولا أحد منها قوي بشكل خاص أو لديه طموحات إقليمية على طريقة تركيا وإيران.
قد يكون هناك شرق أوسط جديد آخذ في الظهور، ويبدو أن أنه سيكون واحداً بدور أميركي أقل بكثير.
المصدر: الغد الأردنية/ – (ذا أميركان إنترست)