مصعب عيسى
على عتبات العقد الرابع من عمري والقادم من نكبتين وأكثر وفي دمي تجري عروق اللجوء ما زلت اتلذذ بنبيذ الاغنيات الثورية الملتزمة التي نشأ عليها جيلنا ومن سبقنا ومن لحقنا ممن لازال يؤمن بجدوى الكلمة واللحن كنوع من الاسلحة الممنوعة وطنيا او المحظورة دوليا بحكم انها تشعل فتيل الفكرة وتنقلها الى موروث شعبي يضيء ساحات التحرير وميادين الحرية.
كثيرين هم الفنانين الذين ارتبطت اسماؤهم بالفكرة والثورة واغنياتهم تلك التي لازلت ادندنها في القرن الواحد والعشرين في زمن التواصل الرقمي والسمعي والبصري فمنهم من سقط بفعل الحت والتعرية الفكرية التي حرفت مسارهم والحانهم بعيدا نحو تموضعات انتهازية مرتبطة برأسمال خفي يملي عليهم ما يكتبون وما يعزفون فسقطوا في وحل الانحراف والنفاق الاخلاقي الامر الذي ادى الى رفضهم شعبيا وشطب اغنياتهم من دهاليز الذاكرة .
لكن بعضهم لازال يتجدد في ذاكرتي كأمل متجدد ليل نهار يعيد تجديد بيعته تلقائيا بفعل المصداقية التي كرسها قلبا وقالبا فكانوا قلوبا ناطقة بكلمات والحان انطلقت من الضمير الحي واستقرت في القلب طواعية دون حواجز او اذونات.
وما زلنا على قيد الوفاء لاغنياتهم الملتزمة. احمد قعبور صاحب الوجه الطيب والكلمة الصادقة التي داوت جروح القضية وضمدت نزيف اللاجئين حين نادى خضر الاخضار مار الياس يذكرنا بحق العودة وقدس الاقداس واصفا مدن فلسطين كانه القادم منها او لكأنه احد اللاجئين القابعين هناك خلف جدران الخيمة قابض على جمر المبادئ والعودة فكانت فلسطينه مطابقة لفلسطين المنتظرة بصبر الانبياء والمتجسدة في تجاعيد كل عجوز ومسن فلسطيني لايزال يفترش مفاتيح منزله في فلسطين يحلم ببرتقال بيارته يعتصر حلما وشوقا في فمه .
قعبور الذي نذر نفسه للحب وللحرية والانسان المقهور اينما وجد فكانت الحرية في مفهومه كونا متكاملا لا يتجزأ يلتقي فيه كلا الثائرين ضد المحتل وضد الطغيان في ان واحد لأنه يعي تماما ان الطريق الى تحرير فلسطين يبدا بإسقاط الانظمة العربية كل الانظمة بلا استثناء لأنها العائق الذي يقف في وجه الشعب العربي كي يعانق حجارة القدس ويطلق سلامه للمسيح الناصري الذي أصبح ايضا لاجئا ينتظر قيامة الشعب ليعود من حيث ولدت الحياة ومن حيث نبت الحب بطعم كنعاني.
لم يتوان قعبور الانسان لحظة ولم يتأخر في اتخاذ موقفه من ثورة الياسمين الدمشقي لأنه ليس من اصحاب تبني المواقف الحزبية المتربصة للوقت والانتظار الى حين تميل الكفة او الى ان تأتي تعليمات الدول للأحزاب بتبني هذا الموقف او ذاك كان يعطي للثورة تعريفها الفني ويعطي للموسيقى مضامين فكرية تجبر كثيرين ومنهم انا على التشبث بالأمل والتمسك بالفكرة وان قل عدد سالكيها.
فغنى لسورية وللوجع النازف في حواريها معلنا كسر الانتظار حين قال (ما حدى ينطر قوموا نغني للأرض اللي قلبها كبير شارع شارع حارة حارة سورية بيلبقلا كثير)
لقد اقتحم قعبور ساحات سورية الثائرة بوجه طاغيتها والتصق بشبابها في الساحات معانقا القباني والقاشوش وكل الاهازيج المشتعلة في كل المدن والبلدات.
واليوم اعلن شعب لبنان من شماله الى جنوبه بكل طوائفه تجديد بيعته الفنية للفنان احمد قعبور حين راحت اغانيه تصدح في النبطية وبيروت وطرابلس وصور تشعل لهب الانتفاضة ضد النظام الطائفي اللبناني الذي انهك الارزة واثقلها بالفساد ولطخ شوارعها بمخلفات القذارة السياسية فكان الفنان الثائر بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ومضامين لأنه غنى وفقا لضميره الحي وقلبه النابض بالانتماء الفطري الطيب لهذه الارض مدركا جمالية الحب والفكرة وليس فداء للسلعة الورقية او الانتهازية الحزبية لهذا التيار او ذاك .
وهنا علينا ان نشكر كل الثورات العربية من محيطها الى خليجها وبالأخص الثورة السورية التي كشفت وازاحت الستار عن الكثير من الاقنعة المزيفة التي كان يرتديها اصحاب المعالي والثقافة والفن الملتزم ولكنها من جانب اخر عززت مفهوم الفن وقدرة الفنان على خلق وتجسيد الفكرة وتعزيزها في قلوب المنتفضين ليستمدوا من خلال الانشودة واللحن امل النصر والتحرير، فانقسم الفن بين مؤيد للثورة ومؤيد للثروة، سلاما لأحمد قعبور الفنان القابض على جمر المبادئ والفكرة .