موفق نيربية
مع إقرار ما سمي بقانون قيصر في مجلس النواب، ثم مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة، تصاعدت من جديد أصوات تعبر عن الخشية من انعكاس موجة العقوبات الجديدة على حياة ومعيشة الشعب السوري، الموجود في مناطق سيطرة النظام، والفئات الأكثر ضعفاً منه على وجه الخصوص. ذلك الأمر له وجهان بشكل طبيعي: أحدهما يحمل قلقاً موضوعياً بالفعل، ويهدف إلى نقل هذا القلق إلى الآخرين. وثانيهما يريد تخفيف الضغط عن النظام، لأنه لا يعاديه عملياً، أو لا يعاديه بالقدر الذي يعادي فيه المعارضة أو أعداء النظام الخارجيين.
إثر حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، تم تشغيل منظومة دعم مالي كبرى من دول الخليج العربية، لكل من مصر وسوريا، في توزيع محقٍ لنسبة مما جاءت به الحرب من تأثيرات على زيادة أسعار النفط العالمية، ومن ثم على حجم عائداته على الدول المنتجة له. من دون أي إنكار لإمكانية أن يكون ذلك الدعم احتراماً أيضاً للقوى الأمامية في وجه إسرائيل. والمهم هنا هو أن تلك المساعدات قد أطلقت موجة إعمار وبناء وتحديث كبرى في سوريا، حملت في طياتها أيضاً مكافأة للمخلصين في بناء الدولة الإدارية – الأمنية – العسكرية ما بين تاريخ سيطرة حافظ الأسد على السلطة في خريف 1970، إلى خريف 1973 المذكور. تلك المكافأة المذكورة كانت إحدى نتائجها الطبيعية، وربما المخططة افتتاح طريق للفساد لم تكن قد عرفته البلاد بعد في تاريخها الحديث، إضافةً بالطبع لتأسيس دولة تقوم بشكل عضويٍ على الزبائنية، وعلى ثنائية الخوف والمكسب.
وبعد حرب الأسد في لبنان، ثم حربه على شعبه في مطلع الثمانينيات، قفزت تلك الظواهر بطفرة جديدة، جعلت من محمد مخلوف – شقيق زوجة الأسد ومستشاره القوي – سيداً للاقتصاد والفساد المنظم. ثم حقق الأسد الابن قفزة مختلفة نوعياً، تخلق موارد جديدة من شحم البلاد ودمها، مع طبقة يقودها رامي مخلوف، ونظام متوحش في ليبراليته الاقتصادية الفاسدة. وبنيته التي تفسخت أيضاً بشكل نهائي في حربه الحالية الكبرى على شعبه، والتي ما زالت بدورها مستمرة حتى الآن.
لا يوجد من يماري حقاً في أن النظام قد اكتمل تحوله إلى ما يشبه العصابة، التي ما زال لها بعض ملامح الحكومة، وبعض أقلّ من ملامح الدولة. لا يعترض على ذلك أهل النظام ونواته، خصوصاً الذين يسمّون أنفسهم «الدولة»، في حين يعترض آخرون. ولم يبق من عوامل شرعية ذلك النظام، إلا ما يدفعه من رواتب للعاملين في الدولة، يقضم منها يوماً بعد يوم ما يحتاجه، أو ما يستسهل النيل منه. وقد وصلت تلك الرواتب في قدرتها إلى الحضيض، مع الحضيض الذي يذهب إليه سعر العملة الرسمية.
لقانون قيصر بؤرتان في أهدافه المحتملة: أولاهما في العقوبات على الأفراد، وثانيتهما في عقوبات على المصرف المركزي، بعد تحقيق وتقرير خلال 180 يوماً للتأكد من الزعم بأنه أداة لغسيل الأموال، ثم 90 يوماً آخر لتطبيقه، من خلال المادة 5318A من القانون 31 المتعلقة بإجراءات التقاضي والمؤسسات المالية ونماذج الحسابات المالية في اعتبارات غسيل الأموال الابتدائية.. وفي الحقيقة، كان الكثير من الدراسات الأممية شبه الرسمية تؤكد على أن العقوبات الاقتصادية تفشل في 65 – 95% من الحالات في تحقيق أهدافها المطلوبة. كما أنها كثيراً ما لا تؤدي إلى تقدم ملموس في حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية الصحافة. وتقترح تلك الدراسات سببين عامين لذلك الفشل: أولهما لأن تلك العقوبات عاجزة عن تخفيف قدرة النظام، لأن النخب المستهدفة سوف تقوم بتحويل وجهة الموارد العامة إلى المعدات الأمنية والعسكرية، أو إلى الحقول التي تخدم مؤيديه وحراسه، أو بتحول المشمولين بالعقوبات إلى ميادين التهريب والجريمة المنظمة والاقتصاد الخفي، أو الريعي البدائي على الأقل. وثانيهما، لأن الحكومة المعنية تقوم بتصوير العقوبات على أنها انتقاص من السيادة الوطنية، أو من شرعية النظام بكونه هو الدولة. كما أن النظام المعني يستند إلى الظروف الطارئة للقيام بتحويل الضغط الخارجي عليه إلى ضغط على معارضيه ومواطنيه، لإظهار تصميمه على مقاومة مطالب الإصلاح وتغيير السياسات.
ينفع هذا الضغط في عصر المواطنين أكثر، بكل المعاني. فما دام هنالك منطق يقول إن مصدر صعوبات المواطنين هو في العقوبات الخارجية، فهنالك منطق، مهما كان أعوج، في تعريض السكان لأسوأ الظروف، من حيث حرياتهم ومعيشتهم. يعطي هذا الحال ظرفاً مناسباً أيضاً لطبقة أثرياء الحرب وأمرائها للمضي في سياساتهم وبرامجهم، لو استعرنا تعبيرات عالم العاقلين لوصف عالم آخر. في ذلك ربما كان هنالك اهتمام ناقص بمفهوم ينبغي تجريده وتعميمه، هو مفهوم «الدروع البشرية»، الآتي من التكتيك الحربي المعروف، الذي استعمله النظام مراتٍ عديدة، واستعملته كذلك قوى إسلامية متطرفة تُحسب على المعارضة، ولا تزال تستخدمها في مناطق مثل إدلب. يمكن نقل هذا المفهوم وتطويره ليكون صالحاً في مسألة العقوبات وآثارها، حيث أن هنالك ضحايا مدنيين من الممكن استثمار مصائبهم بشكل قد يكون ناجحاً، أو سلاحاً في الجدالات اللاحقة على الأقل، ذلك الأثر أكثر اتساعاً، ليشمل كل السكان في المناطق تحت سيطرة النظام، في حالة النظر في آثار العقوبات الاقتصادية. وذلك أكثر تعقيداً في اتساق منطقه أيضاً. وذلك متفق عليه منذ عقود في بحث المجتمع الدولي عن عقوبات ذكية لا مبالغة في آثارها على السكان الخاضعين للسلطة موضوع العقوبات. وكان العراق أكبر ميدان للبحث في مثل هذا النوع من العقوبات، التي لم تنجح هنالك، رغم كل الادعاءات بغير ذلك.
في قانون قيصر، لا يتعلق الأمر في الحقيقة إلا بتلك العقوبات على المصرف المركزي، إذا حدثت. فمن خلالها يمكن أن تتأثر التجارة الخارجية واستيراد الوقود والغذاء بشكل من الأشكال، وكذلك استمرار ازدياد الصعوبات الناتجة عن تراجع العملة، وإشكالات الإنفاق العام اللاحقة. هنا مشكلة حقيقية، لا يمكن تبرئة الفاعل الجرمي الرئيس فيها، ذلك المتمثل في تلك «العصابة» التي حولت البلاد، والمصرف المركزي ذاته مع غيره من أدوات وآليات الدولة، إلى مجرد وسيلة لتبييض الأموال وتحقيق الثروات وتركيز الهيمنة في يد القلة. لقد اعتدى النظام بما جناه ليس على شعبه وحده، بل على النظام الدولي، باقتصاده وسياسته. في قانون قيصر أيضاً، هنالك فقرة كبيرة تتعلق بتسهيل عملية توريد الحاجات الأساسية إلى المناطق المحاصرة، التي قد ينطبق مفهومها على كل الجغرافيا السورية الخارجة عن سلطة النظام. في حين لا تتوفر آليات لتخفيف معاناة المواطنين في المناطق الأخرى، الذين يستخدمهم النظام دروعاً بشرية، ويستمر في خنق أنفاسهم وعزلهم عما يجري حولهم.
سيكون تطبيق قانون قيصر مرحلةً جديدة في نزع ما تبقى من شرعية لنظام الأسد، وفي إجباره وداعميه على تدقيق مسار العملية السياسية، ولكن ذلك سيكون بالنسبة للسوريين، كلما طال أكثر، باباً يفتح على أعماق جديدة من الجحيم.. وقبل كلّ شيء، وحتى لا يسيء أحد فهمنا، فإن المهمة مهمة السوريين أولاً وثانياً.
المصدر: القدس العربي
مع إقرار ما سمي بقانون قيصر في مجلس النواب، ثم مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة، تصاعدت من جديد أصوات تعبر عن الخشية من انعكاس موجة العقوبات الجديدة على حياة ومعيشة الشعب السوري، الموجود في مناطق سيطرة النظام، والفئات الأكثر ضعفاً منه على وجه الخصوص. ذلك الأمر له وجهان بشكل طبيعي: أحدهما يحمل قلقاً موضوعياً بالفعل، ويهدف إلى نقل هذا القلق إلى الآخرين. وثانيهما يريد تخفيف الضغط عن النظام، لأنه لا يعاديه عملياً، أو لا يعاديه بالقدر الذي يعادي فيه المعارضة أو أعداء النظام الخارجيين.
إثر حرب السادس من أكتوبر/ تشرين الأول 1973، تم تشغيل منظومة دعم مالي كبرى من دول الخليج العربية، لكل من مصر وسوريا، في توزيع محقٍ لنسبة مما جاءت به الحرب من تأثيرات على زيادة أسعار النفط العالمية، ومن ثم على حجم عائداته على الدول المنتجة له. من دون أي إنكار لإمكانية أن يكون ذلك الدعم احتراماً أيضاً للقوى الأمامية في وجه إسرائيل. والمهم هنا هو أن تلك المساعدات قد أطلقت موجة إعمار وبناء وتحديث كبرى في سوريا، حملت في طياتها أيضاً مكافأة للمخلصين في بناء الدولة الإدارية – الأمنية – العسكرية ما بين تاريخ سيطرة حافظ الأسد على السلطة في خريف 1970، إلى خريف 1973 المذكور. تلك المكافأة المذكورة كانت إحدى نتائجها الطبيعية، وربما المخططة افتتاح طريق للفساد لم تكن قد عرفته البلاد بعد في تاريخها الحديث، إضافةً بالطبع لتأسيس دولة تقوم بشكل عضويٍ على الزبائنية، وعلى ثنائية الخوف والمكسب.
وبعد حرب الأسد في لبنان، ثم حربه على شعبه في مطلع الثمانينيات، قفزت تلك الظواهر بطفرة جديدة، جعلت من محمد مخلوف – شقيق زوجة الأسد ومستشاره القوي – سيداً للاقتصاد والفساد المنظم. ثم حقق الأسد الابن قفزة مختلفة نوعياً، تخلق موارد جديدة من شحم البلاد ودمها، مع طبقة يقودها رامي مخلوف، ونظام متوحش في ليبراليته الاقتصادية الفاسدة. وبنيته التي تفسخت أيضاً بشكل نهائي في حربه الحالية الكبرى على شعبه، والتي ما زالت بدورها مستمرة حتى الآن.
لا يوجد من يماري حقاً في أن النظام قد اكتمل تحوله إلى ما يشبه العصابة، التي ما زال لها بعض ملامح الحكومة، وبعض أقلّ من ملامح الدولة. لا يعترض على ذلك أهل النظام ونواته، خصوصاً الذين يسمّون أنفسهم «الدولة»، في حين يعترض آخرون. ولم يبق من عوامل شرعية ذلك النظام، إلا ما يدفعه من رواتب للعاملين في الدولة، يقضم منها يوماً بعد يوم ما يحتاجه، أو ما يستسهل النيل منه. وقد وصلت تلك الرواتب في قدرتها إلى الحضيض، مع الحضيض الذي يذهب إليه سعر العملة الرسمية.
لقانون قيصر بؤرتان في أهدافه المحتملة: أولاهما في العقوبات على الأفراد، وثانيتهما في عقوبات على المصرف المركزي، بعد تحقيق وتقرير خلال 180 يوماً للتأكد من الزعم بأنه أداة لغسيل الأموال، ثم 90 يوماً آخر لتطبيقه، من خلال المادة 5318A من القانون 31 المتعلقة بإجراءات التقاضي والمؤسسات المالية ونماذج الحسابات المالية في اعتبارات غسيل الأموال الابتدائية.. وفي الحقيقة، كان الكثير من الدراسات الأممية شبه الرسمية تؤكد على أن العقوبات الاقتصادية تفشل في 65 – 95% من الحالات في تحقيق أهدافها المطلوبة. كما أنها كثيراً ما لا تؤدي إلى تقدم ملموس في حقوق الإنسان والديمقراطية وحرية الصحافة. وتقترح تلك الدراسات سببين عامين لذلك الفشل: أولهما لأن تلك العقوبات عاجزة عن تخفيف قدرة النظام، لأن النخب المستهدفة سوف تقوم بتحويل وجهة الموارد العامة إلى المعدات الأمنية والعسكرية، أو إلى الحقول التي تخدم مؤيديه وحراسه، أو بتحول المشمولين بالعقوبات إلى ميادين التهريب والجريمة المنظمة والاقتصاد الخفي، أو الريعي البدائي على الأقل. وثانيهما، لأن الحكومة المعنية تقوم بتصوير العقوبات على أنها انتقاص من السيادة الوطنية، أو من شرعية النظام بكونه هو الدولة. كما أن النظام المعني يستند إلى الظروف الطارئة للقيام بتحويل الضغط الخارجي عليه إلى ضغط على معارضيه ومواطنيه، لإظهار تصميمه على مقاومة مطالب الإصلاح وتغيير السياسات.
ينفع هذا الضغط في عصر المواطنين أكثر، بكل المعاني. فما دام هنالك منطق يقول إن مصدر صعوبات المواطنين هو في العقوبات الخارجية، فهنالك منطق، مهما كان أعوج، في تعريض السكان لأسوأ الظروف، من حيث حرياتهم ومعيشتهم. يعطي هذا الحال ظرفاً مناسباً أيضاً لطبقة أثرياء الحرب وأمرائها للمضي في سياساتهم وبرامجهم، لو استعرنا تعبيرات عالم العاقلين لوصف عالم آخر. في ذلك ربما كان هنالك اهتمام ناقص بمفهوم ينبغي تجريده وتعميمه، هو مفهوم «الدروع البشرية»، الآتي من التكتيك الحربي المعروف، الذي استعمله النظام مراتٍ عديدة، واستعملته كذلك قوى إسلامية متطرفة تُحسب على المعارضة، ولا تزال تستخدمها في مناطق مثل إدلب. يمكن نقل هذا المفهوم وتطويره ليكون صالحاً في مسألة العقوبات وآثارها، حيث أن هنالك ضحايا مدنيين من الممكن استثمار مصائبهم بشكل قد يكون ناجحاً، أو سلاحاً في الجدالات اللاحقة على الأقل، ذلك الأثر أكثر اتساعاً، ليشمل كل السكان في المناطق تحت سيطرة النظام، في حالة النظر في آثار العقوبات الاقتصادية. وذلك أكثر تعقيداً في اتساق منطقه أيضاً. وذلك متفق عليه منذ عقود في بحث المجتمع الدولي عن عقوبات ذكية لا مبالغة في آثارها على السكان الخاضعين للسلطة موضوع العقوبات. وكان العراق أكبر ميدان للبحث في مثل هذا النوع من العقوبات، التي لم تنجح هنالك، رغم كل الادعاءات بغير ذلك.
في قانون قيصر، لا يتعلق الأمر في الحقيقة إلا بتلك العقوبات على المصرف المركزي، إذا حدثت. فمن خلالها يمكن أن تتأثر التجارة الخارجية واستيراد الوقود والغذاء بشكل من الأشكال، وكذلك استمرار ازدياد الصعوبات الناتجة عن تراجع العملة، وإشكالات الإنفاق العام اللاحقة. هنا مشكلة حقيقية، لا يمكن تبرئة الفاعل الجرمي الرئيس فيها، ذلك المتمثل في تلك «العصابة» التي حولت البلاد، والمصرف المركزي ذاته مع غيره من أدوات وآليات الدولة، إلى مجرد وسيلة لتبييض الأموال وتحقيق الثروات وتركيز الهيمنة في يد القلة. لقد اعتدى النظام بما جناه ليس على شعبه وحده، بل على النظام الدولي، باقتصاده وسياسته. في قانون قيصر أيضاً، هنالك فقرة كبيرة تتعلق بتسهيل عملية توريد الحاجات الأساسية إلى المناطق المحاصرة، التي قد ينطبق مفهومها على كل الجغرافيا السورية الخارجة عن سلطة النظام. في حين لا تتوفر آليات لتخفيف معاناة المواطنين في المناطق الأخرى، الذين يستخدمهم النظام دروعاً بشرية، ويستمر في خنق أنفاسهم وعزلهم عما يجري حولهم.
سيكون تطبيق قانون قيصر مرحلةً جديدة في نزع ما تبقى من شرعية لنظام الأسد، وفي إجباره وداعميه على تدقيق مسار العملية السياسية، ولكن ذلك سيكون بالنسبة للسوريين، كلما طال أكثر، باباً يفتح على أعماق جديدة من الجحيم.. وقبل كلّ شيء، وحتى لا يسيء أحد فهمنا، فإن المهمة مهمة السوريين أولاً وثانياً.
المصدر: القدس العربي