تسيطر حالة من القلق على أصحاب «التسويات» في المناطق التي استعادت الحكومة السورية السيطرة عليها، وذلك بسبب «انقلاب» دمشق على بنود ما تسميها «اتفاقات المصالحة»، وممارستها التضييق عليهم للالتحاق بمن هجّرتهم قسراً إلى شمال البلاد.
أبو محمد، وهو من إحدى بلدات غوطة دمشق، وكان من المؤيدين للحراك السلمي عند اندلاعه بالمنطقة في بداية عام 2011، فضّل مع سيطرة قوات النظام إجراء «تسوية وضع» لدى السلطات الأمنية والبقاء مع عائلته في منزله والعمل في أرضه الزراعية، على التهجير إلى شمال البلاد.
الأب البالغ من العمر 50 عاماً يوضح لـ«الشرق الأوسط» أنه رغم مضي أكثر من عام على تقديم أوراقه الخاصة بـ«التسوية» إلى الأجهزة المختصة عبر «لجان المصالحة»، فإنه حتى الآن «ورغم حصول كثيرين من المنطقة على موافقات، لم يتلقَّ موافقة»، ويقول: «اسمي مدرج على قائمة المطلوبين، وأعيش منذ أكثر من سنة في سجن كبير، لأنني لا أستطيع الخروج من البلدة، فالاعتقال ينتظرني على أول حاجز»، ويضيف: «حتى التجول في الشوارع بتّ محروماً منه في كثير من الأحيان في ظل حملات الدهم المستمرة التي تقوم بها عناصر الجيش والقوى الأمنية بحثاً عن مطلوبين».
بمرارة يلفت أبو محمد إلى ما يردده بعض الأهالي ممن حصلوا على موافقات «تسوية»، بأن «من لا توافق السلطات على إجراء تسوية له، فسيتم إبعاده» إلى المناطق التي تم تهجير رافضي التسوية إليها في شمال البلاد، ويقول: «المصيبة أنني لا أعرف إلى أين ستصل الأمور، ومصيري مع عائلتي غير معروف، والمصيبة الكبرى إذا جرى إبعادنا». وابتدعت السلطات السورية خلال الحرب المستمرة في البلاد منذ سنوات ما سمتها «تسوية الوضع»، وهو إجراء يتضمن تقديم الشخص طلب «تسوية وضع» إلى السلطات الأمنية التي تقوم بدورها بالتدقيق في أعمال مارسها ضدها وتصنفها «إرهابية»، ومن ثم منحه «إعفاء» منها وتزويده بورقة تؤكد ذلك لعدم ملاحقته أمنياً وليعود إلى حياته الطبيعية.
وتشمل هذه الأعمال التي تصنفها السلطات «إرهابية» وتمنح طالب التسوية عفو عنها: الأنشطة السلمية كالتظاهر والإغاثة، وحمل السلاح مع فصائل المعارضة المسلحة، وصولاً إلى التعاطف مع الثورة.
ومع سيطرة الحكومة السورية على كثير من المناطق التي كانت تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة ورغبة كثير من أهالي تلك المناطق في البقاء في مدنهم وقراهم، ارتفعت أعداد طالبي «تسوية الوضع».
شاب في العقد الثالث من العمر ينحدر من ريف دمشق الشمالي، وتمت الموافقة على طلب «تسوية وضع» كان تقدم به، يوضح لـ«الشرق الأوسط»، أن الخوف لدى من حصلوا على موافقات يزداد بشكل كبير مع الحديث عن اعتقالات تطال كثيراً ممن جرت الموافقة على طلباتهم، ويقول: «كثير من الأجهزة الأمنية لا تعترف بوثيقة (إعفاء) صادرة عن أجهزة أمنية أخرى»، ويوضح أنه في ظل هذه الحالة يجري اعتقال كثير ممن حصلوا على موافقات «تسوية الوضع».
ويوضح الشاب أنه لا يكاد يمر يوم إلا ويتم الحديث فيه عن حدوث اعتقالات بحق حاصلين على موافقات «تسوية وضع»، مما دفع بغالبيتهم إلى البقاء في منازلهم خوفاً من الاعتقال، وبالتالي تعطلت أعمالهم وتقيدت حركتهم وحريتهم.
أحد المصادر المقربة من «لجان المصالحات» التي تقوم بتسلم طلبات «تسوية الوضع» ومن ثم رفعها إلى السلطات الأمنية، يقول لـ«الشرق الأوسط»: «الانطباع العام لدى السلطات منذ بداية الأحداث أن من بقي في بلدته أثناء سيطرة المعارضة عليها هو مؤيد للمعارضة أو متعاطف معها، وتم اتخاذ موقف من هؤلاء رغم أن البعض منهم لم يكن مؤيداً وإنما فضل البقاء في منزله على النزوح». ويضيف: «بعد ما جرى من سيطرة الحكومة على كثير من المناطق، أعداد لا بأس بها من المسلحين وغير المسلحين المؤيدين للمعارضة، إضافة إلى أشخاص أدرجت أسماؤهم في قوائم المطلوبين رغم أنهم غير مؤيدين للمعارضة… كل هؤلاء فضلوا تسوية أوضاعهم والبقاء في بلداتهم ومنازلهم على التهجير إلى الشمال، ولكن ما زالت هناك حساسية مفرطة لدى السلطات تجاههم».
وأوضح المصدر: «ما يجري حالياً من مماطلات في الموافقة على طلبات (تسوية الوضع) واعتقالات تطال أشخاصاً حاصلين عليها لا يمكن تفسيره إلا بالانقلاب على ما نصت عليه اتفاقات المصالحة»، ويضيف: «بمعنى آخر؛ السلطات تقول لهؤلاء أنتم غير مرغوب فيكم هنا وعليكم اللحاق بمن كنتم تعيشون معهم»، في إشارة إلى من جرى تهجيرهم قسراً إلى شمال سوريا.
ولا توجد أرقام دقيقة للمدنيين الذين تقدموا بطلبات «تسوية وضع»، ولا لمن حصل على موافقات منهم، ولكن المصادر المقربة من «لجان المصالحات» تشير إلى أن أعداد هؤلاء كبيرة جداً لأن بينهم طلاب جامعات.
وتقول المصادر: «أعداد هائلة من طلاب الجامعات منقطعون منذ سنوات عن الدراسة بسبب عدم صدور موافقات (تسوية وضع) بالنسبة لهم»، وتضيف: «أيضاً اتفاقات المصالحة منحت المطلوبين للخدمتين الإلزامية والاحتياط فترة 6 أشهر للالتحاق، وهذه المدة انتهت في أغلب مناطق المصالحات، وبالتالي كل المطلوبين معرضون للاعتقال».
كما لا توجد أرقام دقيقة لمسلحي المعارضة الذين تقدموا بطلبات «تسوية وضع»، ولكن مراكز دراسات وأبحاث تتحدث عن أن الآلاف من هؤلاء قبلوا باتفاقات المصالحة وسلم بعض هؤلاء أسلحتهم وعادوا إلى الحياة المدنية، بينما قام بضعة آلاف منهم بالالتحاق بالقوات النظامية أو القوات الموالية لها، إضافة إلى أن البعض اختار الالتحاق بتشكيلات أقامتها روسيا.
المصدر: الشرق الاوسط