علينا أن لا نستغرب مدى تأثر السوريين، بأي موقف أو سلوك فلسطيني، ذو صلة بالقضية السورية من مختلف أبعادها، إذ تكاد العلاقة التاريخية والوشيجة بين الشعبين، ونصيب كلٍ منهما من الارتباط الوثيق بمصير الآخر، أن تجعلنا أكثر فهماً لردود أفعال السوريين، الممزوجة بمشاعر الأسى والغضب، حال صدور أي موقف فلسطيني ذات خلفية سياسية أو اعتبارية، يصب في خدمة النظام السوري وحلفائه. في حقيقة الأمر لم يفاجئ السوريون فحسب خلال محطات ثورتهم، من انحياز أطراف فلسطينية وبدرجات مختلفة، إلى رواية النظام الأسدي، ومساندته في حربه الظالمة على الشعب السوري، بل إن فلسطينيو سورية استفاقوا أيضاً على خذلان عميق وجارح من بعض أبناء جلدتهم، ممن شاركوا النظام فعلياً بصناعة نكبتهم الثانية، أو تنكروا لها بشكلٍ فاضح.
بيدَ أن المدعو للغرابة، وأكثر منه لوضع الحقائق في نصابها، يعود إلى توغل منطق التعميم في إدانة الكل الفلسطيني، ووضعه على قدم المساواة، مع مواقف جهات معينة تعبّر عن اصطفاف أصحابها، بالضد من ثورة السوريين ومن في “حكمهم”. اتضح هذا المنحى الخطير الذي لا يُميز بين الشعب الفلسطيني عامةً، ومواقف القيادات وبعض النخب الفلسطينية بوجهٍ خاص، مع استثمار العديد من الأبواق الإعلامية، لمواقف وتصريحات صادرة عن تلك القيادات والنخب، لترويج انطباع عام ينظر إلى الفلسطينيين عموماً، كأدوات تشبيح وارتزاق طعنت من وقف إلى جانب قضيتها. كان لافتاً مع توغل منطق التعميم ذاك، إشاعة مناخ (شعبوي) يأخذ الصالح بالطالح، ويثير لغة الاتهام والتخوين على عواهنها.
عادةً، وكما هو معلوم، كان النظام السوري منذ عهد الأسد/ الأب، بارعاً في توظيف فلسطين وقضيتها لمصالحه السلطوية وأدواره المشبوهة، ولم يفوّت الأسد الابن أية فرصة منذ بداية الثورة وطيلة محطاتها، في استخدام الورقة الفلسطينية كغطاء على إجرامه وتوحشه بحق السوريين والفلسطينيين معاً. أما أن يتخذ بعض المحسوبين على الثورة السورية، من خطايا هذا الطرف الفلسطيني أو ذاك، حجةً ومبرراً لإثارة البغضاء والكراهية بين الضحايا أنفسهم، فهذا أقله خدمةً مجانيةً للنظام، حتى ولو فرضنا أنهم غير مدركين، لخطورة استسهال مقاربة العلاقة الفلسطينية، من زاوية ضيقة في تناول انقسامات وتعقيدات الوضعية الفلسطينية.
إذ لا يستوي وطنياً أو أخلاقياً طمس الموقف الشعبي الفلسطيني، الذي انحاز إلى ثورة إخوته السوريين، ومن ينسى أو يتجاهل تضحيات فلسطينيي سورية، والثمن الباهظ الذي دفعوه، تأكيداً على وحدة الحال والمصير التي تجمعهم بالسوريين، كمن يصادق على الروايات المسيئة، التي سعت لتشويه الثورة السورية، والنيل من أحقيتها وعدالتها، والتي تذرعت أيضاً بالعيوب والأمراض التي ظهرت خلال محطات الثورة.
لم يكن الانقسام الحاد في الوضعية الفلسطينية، ظاهرةً حصرية يمكن تناولها بمعزل عن انقسامات الحالة السورية نفسها، وبكل تجلياتها المجتمعية والمناطقية والنفسية، ولم يخرج تشبيح الأدوات الفلسطينية، عن ظاهرة التشبيح التي تورطت فيها فئات سورية من مختلف المكونات والمناطق. إذاً وكما امتحنت الثورة السورية وكشفت حقائق كبرى على كافة المستويات، لم يُستثنَ الفلسطينيون من تلك الحقائق الصادمة أيضاً. بمعنى أوضح، ثمة فارق لا يجوز إغفاله، بين واجب كل حر في انتقاد وتعرية كافة المتورطين في دعم النظام الأسدي وحلفائه، سواء بالقول أو الفعل، أو حتى بالصمت على جرائمهم الرهيبة، وبين استغلال تلك الحقائق المُدانة، بهدف الإساءة للصور الناصعة، التي جمعت السوريين والفلسطينيين، في بوتقة الكفاح المشترك على طريق الخلاص من الاستبداد الأسدي البغيض.
الجاحدون للتضحيات الغزيرة التي قدمها الفلسطينيون في محطات الثورة السورية، من آلاف الشهداء والمعتقلين والمغيبين قسرياً، والناكرون لمعاناتهم المروّعة، بسبب تدمير مخيماتهم وتهجيرهم منها، هم أنفسهم من يعملون على اختزال الثورة السورية العظيمة، على مقاسات عقولهم الضيقة ومعاييرهم المجتزأة. في الوقت الذي تتضاعف الحاجة، في ضوء التحديات المصيرية التي تواجه الواقع السوري، إلى تصليب المشتركات بين كافة الأحرار، وبناء وعي مجتمعي وسياسي، يقطع مع ثقافة الاستبداد، التي تتغذى على التفرقة وزرع الأحقاد المتبادلة بين أبناء الوطن الواحد.
ما يدفعنا في تجمع مصير إلى لفت الأنظار، لخطورة الأصوات التي تعزف على وتر الشقاق والخلاف، بين ضحايا الإجرام الأسدي والمتضررين من سياساته الغاشمة، حرصنا الشديد على تفويت الفرص لكل من لهم مصلحة – وما أكثرهم- لحرف بوصلة الثورة السورية، وتعميق الانقسامات في صفوفها، بدلاً من العمل على توحيد الجهود وتضافرها، على طريق نيل الحرية وبناء سورية الحرة.
لا يفوتنا أن نذكّر هنا؛ بأن الحناجر التي هتفت منذ اليوم الأول للثورة “فلسطيني وسوري واحد” كانت الأصدق في التعبير عن الروابط الأخوية العميقة، التي تعمدّت خلال محطات الثورة، بدماء وتضحيات السوريين والفلسطينيين جنباً إلى جنب. ما يلقي علينا جميعاً مسؤولية صون تلك التضحيات، والدفاع عن أصالة مشروع التحرر الذي قامت عليه الثورة السورية، وفحوى مضامينها الوطنية والإنسانية، ومن أبرز تلك المضامين الثورية، استحالة الفصل بين تحرر الشعب السوري من الاستبداد الأسدي، وتحرر الشعب الفلسطيني من الأنظمة القمعية، التي كانت الدرع الأول في حماية الكيان الصهيوني، وتمرير مخططاته العدوانية، بحق الفلسطينيين والعرب. لذلك لا يعترينا أدنى شك، بأن كل من وقف وساند العصابة الأسدية، وكل من أراد أن يمر طريقه إلى القدس، عبر قتل وتهجير الشعب السوري من أرضه، ما هو إلا عدو حقيقي للشعبين، وأداة قاتلة تستكمل فصول نكباتنا ومآسينا.
ما يُعزز من يقيننا بوعي شعوبنا لجدليات تحررها، وهي تخوض أعتى معارك الدفاع عن وجودها وحقوقها، تلك الرسائل الوجدانية النبيلة التي تتبادلها بمحبة صادقة، رغم كل همومها وجراحها. حيث تشكّل القوافل الإغاثية والخيرية، التي أرسلها أهلنا الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948، لمساعدة أهلهم النازحين والمهجرين في الشمال السوري، عشية تصاعد الهجمة الأسدية الروسية مؤخراً، واحدة من أبلغ تلك الرسائل المُشرقة، التي تجسد الموقف الشعبي الفلسطيني، في أبهى تعبيرات الوفاء الحقيقي للشعب السوري، الذي فتح بيوته وقلوبه، عندما لجأ الفلسطينيون منذ نكبتهم الأولى إلى سورية، وشعروا طيلة سبعة عقود من مكوثهم فيها، بأنها وطنهم الدافئ الذي عشقوه، وتقاسموا وأهله السراء والضراء، وثاروا على مظالم حكامه، حين أزفت ساعة الخلاص، لأن ما يوحدهم أقوى من كل محاولات التفريق بينهم.