توصف ألمانيا بأنها القائد الحقيقي للاتحاد الأوروبي، لأنها أكبر دولة أوروبية من حيث السكان، وأكبر دولة من حيث الدخل القومي، ولذلك فإن لها كلمة مسموعة، وتأثير كبير داخل ذلك الاتحاد. ورغم أن ألمانيا محكومة منذ خسارتها الحرب العالمية الثانية، باتفاقيات مع الولايات المتحدة وبريطانيا، تكبح جماح اندفاعها العسكري، إلا أن افتقادها للقوة العسكرية لم يمنعها من التفوق، وإثبات الوجود في أوروبا، والعالم، وقد كانت بداية الاتحاد الأوروبي منها عندما مدت يدها إلى عدوتها السابقة، فرنسا، وقررتا العمل معاً من أجل مستقبل أفضل لأوروبا.
وكان الحدث الأبرز الذي غيّر مجرى التاريخ الحديث، في أوربا والعالم، هو سقوط حائط برلين، وإعادة توحيد ألمانيا من جديد، حيث كان ذلك إيذاناً بزوال الشيوعية، وإعادة توحيد العالم، لكن هذه المرة تحت راية الرأسمالية الغربية، وزعيمتها الولايات المتحدة، إلا أن توحيد ألمانيا، وإن كان أعاد للشعب الألماني كرامته المهانة، لكنه شكل عبئاً ثقيلاً على الاقتصاد الألماني، وأبطأ من نموه في السنوات التالية.
وقد ترك ذلك آثاراً سلبية في الحياة السياسية في ألمانيا، وظهر تململ عام من التردي الاقتصادي، وعجز الطبقة السياسية عن معالجة الأزمة، فظهر ما يسمى «حزب البديل من أجل ألمانيا»، بزعامة يورج مويتن، كرد فعل على سياسة إنقاذ اليورو من السقوط، ويتبنى هذا الحزب سياسات قومية، ويدعو إلى تفكيك منطقة اليورو، وعودة كل دولة من دولها إلى عملتها الوطنية. وعندما حدثت موجة الهجرة الكبرى من بعض دول الشرق الأوسط إلى أوروبا، أعلنت المستشارة الألمانية ميركل استضافة هؤلاء اللاجئين، لكن «حزب البديل من أجل ألمانيا» أعلن رفضه لسياسة استيعاب المهاجرين، ما زاد من شعبيته، واستطاع في الانتخابات العامة التي أجريت في 25 سبتمبر/ أيلول 2017 الفوز بنسبة 13 في المئة من أصوات الناخبين، وأصبح له في البرلمان 90 نائباً، وأصبح بذلك أول حزب يميني قومي يدخل إلى البوندستاج منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. لكن تلك الانتخابات كانت بمثابة كارثة على الأحزاب الرئيسية التي تقود العملية السياسية في ألمانيا منذ أمد طويل، ولاسيما، الاتحاد الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه المستشارة ميركل، والحزب الديمقراطي الاجتماعي الألماني، وهذان الحزبان يسيطران على النظام الحزبي فكل المستشارين الذين تعاقبوا على قيادة ألمانيا كانوا أعضاء في أحد هذين الحزبين الكبيرين. ومنذ إجراء الانتخابات فقد تعثرت مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية بقيادة المستشارة إنجيلا ميركل، لاختلاف وجهات نظر الأحزاب حول القضايا الاستراتيجية التي تواجه الأمة الألمانية، وفي مقدمتها قضية الهجرة، واليورو. وحاولت المستشارة، في البداية، تشكيل حكومة مع الحزب الديمقراطي الحر، لكن المحادثات انهارت في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني بسبب اعتراض هذا الحزب على سياسة الهجرة. ما دفع الرئيس الألماني فرنك فالتر شتاينماير، إلى الضغط على مارتن شولتز زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي؛ للقبول بدخول حكومة ائتلافية مع ميركل لإنقاذ البلاد من أخطر أزمة سياسية تواجهها. وبعد مفاوضات دامت أكثر من شهرين، انقشع الموقف في 7 فبراير/ شباط 2018 عن إعلان الحزب الديمقراطي الاشتراكي موافقته الدخول في تشكيلة حكومية إلى جانب حزب ميركل، ومبدئياً، أصبح هناك حكومة جديدة في ألمانيا. ولكن الأنظار تتجه الآن إلى الاستفتاء الذي سيجريه الحزب الاشتراكي لأخذ موافقة قاعدته الحزبية على المشاركة في ائتلاف مع حزب ميركل، وإذا وافقت هذه القاعدة فسوف تبصر الحكومة العتيدة النور، وإذا لم يكن هناك موافقة، فإن ألمانيا سوف تتجه إلى انتخابات جديدة. وأياً كان الموقف الذي قد يستجد، فإن فشل الأحزاب الألمانية على مدى أكثر من أربعة أشهر في تشكيل حكومة، له مغزى عميق يؤشر أن ألمانيا هي بخلاف الصورة التي نراهاتحتاج إلى إصلاح حقيقي، وإذا كان «حزب البديل من أجل ألمانيا» لديه الآن 90 نائباً في البرلمان، فإن هذا الحزب سيضاعف هذا الرقم في أية انتخابات مقبلة، ليتحول إلى رقم صعب في المعادلة السياسية الألمانية، وهكذا سيتغير المشهد في هذه الدولة، وبدلاً من أن تكون ألمانيا قائدة للاتحاد الأوروبي، فإنها ستكون أول من يرفع المعول لهدم أركانه. وكما بدأ هذا الاتحاد منها، فإنه قد ينتهي، منها أيضاً، في المستقبل.
المصدر: الخليج