محمد خليفة
غيّب الموت أمس، في 29 كانون الثاني، قطبا من أقطاب الحركة الوطنية السياسية، وبطلا من أبطال المعارضة الأشداء في وجه الطغيان والاستبداد منذ مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى آخر نفس من حياته. هو محمد عبد المجيد منجونة، المناضل السياسي والمحامي النقابي والمثقف العروبي البارز. ذاق مرارة المعتقلات والزنازين طوال عهود البعث دون ان تنال من صموده وصلابته واصراره على النضال بكل أشكاله، ضد الاستبداد جنبا الى جنب مع الزعيم والمفكر الخالد د. جمال الأتاسي رحمهما الله، في حزب الاتحاد الاشتراكي الذي حافظ على موقعه كمركز جذب وحلقة تقريب بين أطياف الحركة الوطنية اليسارية كافة، على مدى ستين عاما، وقدم قوافل من الابطال والشهداء، ليس منجونة سوى الأخير بينهم.
الراحل عبد المجيد منجونة
رجل تجتمع فيه كل كل مزايا وسجايا القائد المجبولة فيه بشكل طبيعي وفطري ليس فيها تكلف ولا تعمد. شجاع وحكيم في آن واحد، صلب وهادئ، خلوق ولطيف بدون ابتذال، معتدل ووسطي، رزين ورصين، مقدام بلا تهور. رجل حوار لا رجل صدام. قائد بالفطرة والغريزة. حياته خط مستقيم كأنه مرسوم بالمسطرة، لم يتقلب ولم يتغير، ولم يتراجع عن مبادئه أبدا ولم ينكسر، ولم يساوم، ولم يناور، مبدئي ومنهجي وواضح بلا غموض، لا يخفي شيئا ولا يتردد في اعلان رأيه بدون مواربة. لا يعرف الخوف، ولا الجبن. يلقى احترام الخصوم كما يحظى بمحبة الرفاق والانصار. يعتز بنفسه بدون غرور ولا استعلاء، شديد التواضع، مقل في الكلام، يشرح موقفه بدون اسراف. فيه كل الصفات التي تجعل كل القوى السياسية قريبة منه وقريبا منها.
تصلح سيرته أن تكون كتابا مدرسيا لتعليم الأجيال، وكتابا لتأريخ تجربة النهوض القومي. وتصلح أن تكون ملحمة نضالية وطنية تلهم الأجيال القادمة، فهو من رعيل المناضلين الذين أفنوا حياتهم في سبيل الأهداف الكبيرة للأمة العربية ولم يتوقفوا عند القضايا الصغيرة والقطرية، أحلامهم وأمانيهم وراياتهم تسع التاريخ، من امثال جورج حبش، وجمال الاتاسي، وكمال جنبلاط، والياس مرقص، وياسين الحافظ، وأديب النحوي، وعبد الله الريماوي، وفؤاد الركابي.. مناضلون تصوفوا زهدا في الحياة، واستغراقا في الأمنيات والغايات المقدسة والعليا لأمتهم.
ذكريات شخصية
اقتربت من المناضل الراحل الذي غادرنا الى لقاء ربه ومستقر رحمته، منذ ما قبل 1970 , كنا نلتقي باستمرار في مناسبات نضالية. ثم بدأنا نلتقي يوميا بعد أن أصبحت موظفا في عدلية حلب، وهو يمارس مهنته كمحام، كنا غالبا ما نخرج من قصر العدل، ونتمشى على اقدامنا حتى ساحة باب الفرج، ونتبادل الحديث، وكان يرافقنا الصديق المرحوم مأمون بوبكي، والصديق جلال حاج نجيب، أو غيرهما.
في مطلع عام 1971 كنا في تظاهرة مع جماهير غفيرة نطالب حافظ الاسد الذي استولى على السلطة قبل ثلاثة شهور فقط بالوفاء بوعوده واجراء تغيير جذري في بنية النظام. جاء ضابط رفيع الرتبة يحاول منعنا من إطلاق بعض الهتافات، وأخذ يهددنا، ذهب أحدنا وأخبر عبد المجيد، فأسرع الى الضابط الكبير من خلفه، وخبط بيده على رتبته وقال له بلهجة حادة: ماذا تفعل …؟ اذهب شوف شغلك. حدق قليلا في وجه عبد المجيد ولم يرد، ثم انصرف بعيدا عنا!
ذكريات وشهادات أخرى
في أواخر عام 1980 دعاني الكاتب الروائي الكبير فاضل السباعي (أمد الله بعمره وقد ناهز التسعين) الى أمسية قصصية له في جامعة حلب، فحضرتها، وبعد أن انتهت خرجنا، ووقفنا نتحادث أمام كلية الآداب، وبينما نحن هكذا اقترب منا اثنان من عسس الاستخبارات وطلبا من فاضل مرافقتهما، وأصعداه الى سيارة انطلقت بهما الى فرع أمن الدولة القريب من الجامعة. قلقت عليه وأخذت أتقصى أنباءه من أخيه نادر (رحمه الله) وكلما سألته أجابني بحزن ما زال عندهم ولا ندري شيئا عنه أكثر من ذلك.
بعد حوالي شهرين علمت أنهم أفرجوا عنه وعاد الى منزله في دمشق، فسافرت فورا وقصدت بيته لأطمئن عليه وأهنئه بالسلامة، دخلت عليه وجدته في هيئة مختلفة جدا، كانت لحيته قد طالت داخل المعتقل ونضارة وجهه شحبت. جلسنا وأخذ يحدثني عن التجربة بهلع وذعر. قال لي على الرغم من أن المدة التي قضيتها عندهم قصيرة نسبيا إلا أنها كافية لتعرف كم هي تجربة مرعبة. وقال إنهم وضعوه في زنزانة منفردة لمدة اسبوعين، كانت أقسى عليه من بقية المدة. وصمت قليلا.. ثم استأنف: أتعرف من كان جاري بالمنفردة…؟ قلت لا.. من؟ قال: عبد المجيد منجونة، قلت ما هذه المصادفة العجيبة، كيف كانت حاله.. أخبرنا؟
أجابني والانبهار به واضح في حديثه: هذا الرجل جبل صلب، لم أر اقوى واصلب منه. سألته بدهشة ولهفة.. كيف …؟ قال: من اعتقاله قبل ستة شهور وهو في منفردة، ورغم ذلك يحتفظ بمعنوياته العالية. وتابع: لما علم أنني موجود بالزنزانة المجاورة لزنزانته، صار كل يوم يخبط على الجدار الفاصل ويناديني بصوت مرتفع: كيف أنت يا فاضل؟ لا تخف، اصمد، وتشجع. وكان بين لحظة واخرى يكرر: عبد المجيد هذا رجل كالطود الشامخ الراسخ قوي وصلب وصبور. هذه شهادة فاضل السباعي الذي ما زال حيا والحمد لله عن الفقد الراحل عبد المجيد منجونة .
اعتقل رحمه الله بعد اصدار بيان النقابات العلمية في بداية انتفاضة حلب الشعبية في آذار 1980 , وكان لقائي بفاضل في اكتوبر من نفس العام، كما أذكر. وبقي في المعتقل حتى 1992. ورغم خروجي من سورية بعد ذلك بثلاثة شهور فقط تابعت استقصائي لأخبار ابي ضرار.
في عام 1983 كان النظام قد أخضع حلب وقمعها بقسوة بالغة، إذ سلط عليها الفرقة الثالثة من الجيش بقيادة المجرم اللواء شفيق فياض، والوحدات الخاصة بقيادة علي اصلان، واستباح حرماتها، ومنع التجول فيها لعدة شهور متتالية. كان الفياض يجر جثث القتلى بسلاسل مربوطة خلف الدبابات ويطوف بها شوارع حلب ليزرع الرعب والاستسلام في قلوب أهالي المدينة الثائرة .
وروى لي شخصية بارزة أن مجموعة من وجهاء حلب رأوا ضرورة أن يطلبوا مقابلة الطاغوت الاكبر ويجددوا له الولاء والطاعة لكي يخفف قمعه المستمر والمستتر لحلب ومعاملتها بشكل استثنائي ( هي وشقيقتها الصغرى حماة ) .
تابع الراوي: تشكل وفد ضم حوالي خمسين شخصية , يمثلون النقابات وكبار التجار والشيوخ , والنواب , وطلبوا أن يسمح حافظ الاسد لهم بلقائه , فوافق وذهبوا اليه في الموعد المحدد , فوجدوه في غاية الانشراح فرحب بهم وجلس معهم سهرة طويلة استغرقت عدة ساعات . واكتشفوا أنه كان يشعر بنشوة النصر لأن وجهاء حلب ذهبوا اليه وقدموا له مراسم الولاء والطاعة , وكأنهم يعتذرون عن تمرد بعض الجماعات الضالة من أهلها عام 1980 . ومضت السهرة على هذا النحو الى أن استاذن رئيس نقابة المحامين ظافر خير الله رحمه الله بالحديث متوجها الى الاسد : يا سيادة الرئيس لا بد أن نطوي صفحة تلك الأحداث المؤلمة ونتعهد لكم أن تبقى حلب على ولائها لكم , وليس لنا إلا طلب واحد , نرجوا ألا تردوه لنا , فأجابه تفضل , طلبكم مجاب إن شاء الله . فقال ظافر : يا سيادة الرئيس نرجوكم أن تصفحوا عن زميلنا عبد المجيد منجونة وتأمروا بإطلاق سراحه ليعود الى أسرته.
قال الراوي: ما إن سمع الأسد اسم عبد المجيد منجونة حتى اختفت ملامح الانشراح والسرور عن وجهه , وحل العبوس والتوتر والغضب المكتوم . وقام من كرسيه وغادر الصالة , عدة دقائق , ثم عاد صامتا , وقال لضيوفه : اطلبوا ما شئتم وسأوافق عليه عدا هذا الطلب , عبد المجيد لن يفرج عنه طالما أنا حي , لأنه ناكر للجميل , أنا عينته وزيرا فشق عصا الطاعة , وعاد الى صف المعارضة , وحرض على فتنة 1980 وكان له دور رئيسي في تحريض النقابات عليّ .. لذلك فهو لا يستحق العفو , لن أفرج عنه وأنا حي . ثم فاجأ وجهاء حلب قائلا لهم : بصراحة أنا غير مقتنع بكلامكم أن الذين أحدثوا هذه الفتنة ضدي هم حفنة من الاخوان المسلمين فقط , أنا مقتنع بأن حلب كلها شاركت في الأحداث , يعني كل المدينة ضدي . ثم وقف الرئيس منهيا اللقاء , وقد فشلت المصالحة !
قال الراوي بعد هذا الرد العنيف لم يجرؤ أحد من الوفد على نطق كلمة واحدة , فخرجنا من عنده نجرجر أذيال الخيبة والفشل .
بعد سنوات تحرك بعض من رفاقه في خارج سورية لتوسيط بعض الشخصيات العربية لتطلب من الأسد الافراج عنه .
وكنت ممن شاركوا في هذه الجهود , عام 1990 , وطلبنا من محمد فائق التوسط , فوافق وبذل مساعيه , ولكن الأسد و عده ولم يلب , ثم طلبنا من د . خير الدين حسيب وحاول مع عدد من الشخصيات اللبنانية المرموقة , ومنهم الرئيس سليم الحص ولكنه رفض أيضا .
ثم سنحت فرصة ثمينة في عام 1992 إذ كان من المقرر أن ينعقد المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب في دمشق , فطلب بعض الأخوة من أمانة الاتحاد أن يقولوا لممثلي النظام السوري : نحن لا نستطيع عقد المؤتمر في سورية طالما أن هناك محامين معتقلون , ولذلك إما أن تفرجوا عنهم , وإما أن ننقل المؤتمر الى بغداد , وعندما أخبروه لم يجد مناصا من الرضوخ والإذعان , فأمر بالإفراج عن عبد المجيد فورا لكي لا يخسر شرف استضافة ممثلي المحامين العرب , ويذهبوا الى عرين خصمه اللدود صدام حسين وهو يعرف أن المؤتمر سيتحول منصة للهجوم على نظام دمشق!
رحم الله أبا ضرار، رجل من خيرة رجال سورية، ومن أبرز مناضليها الصادقين، ومن أشجع معارضي الأسد ومن أخلص فرسان الحركة الوطنية والنقابية والسياسية والقومية خلال الستين سنة الماضية، ومن أقومهم وأطهرهم وأشرفهم خلقا وسلوكا.
المصدر: موقع المدار نت