قلّما سمعنا مواقف واضحة ومحددة من مسؤولي الكيان الصهيوني، عن ثورات الربيع العربي، والثورة السورية على وجه الخصوص، ليس لأن المخاوف الصهيونية من اندلاع شرارة تلك الثورات، والخشية من صعود بدائل ثورية مكان الأنظمة العربية، هو السبب الوحيد لامتناع المسؤولين الإسرائيليين، عن التعليق بمواقف واضحة حيال الأحداث الكبرى، التي يعيشها العالم العربي في السنوات الأخيرة. لعلّ الحقيقة التي غابت وراء ذاك الحذر، والتكتم، والرد بعبارات دبلوماسية في أحسن الأحول، تكمن في إدراك صانع القرار الإسرائيلي للخطر الاستراتيجي، الذي تمثله الثورات والانتفاضات الشعبية، على وجود الكيان الصهيوني ومستقبله في المنطقة.
فحين أطلقت تلك الثورات شعار “إسقاط الأنظمة “هدفاً لها، كان واضحاً استفاقة الوعي العربي الممزوج بالقهر والغضب، على سلطات قمعيّة فاشلة في إدارة شؤون شعوبها، بما لا يقل عن فشلها في إدارة الصراع مع العدو الصهيوني، وبوعي تاريخي أعمق وأوضح، انكشاف الأدوار الكارثية لتلك الأنظمة في السر والعلن، في إحكام القبضة الخانقة على شعوبها، بهدف مقايضة استمرار وجودها بتأمين حماية وحراسة العدو الصهيوني، ليس فقط بالمحافظة على صقيع الحدود والجبهات مع العدو، إنما وهو الأهم تدجين الشعوب العربية من خلال الإفقار والتخلف والقمع، كي تبقى في حالة خوف وعجز وشلل تضمن أبدية تلك الأنظمة، بالقدر الذي يزيل أي مخاوف إسرائيلية من خطر الشعوب على “إسرائيل” إذا نالت حريتها، وتحققت جدليات تحررها من الاستبداد وكافة أشكال الاحتلال والهيمنة الخارجية.
قبل اندلاع الثورة السورية، وحين كان ثوار مصر يعتصمون في ميدان التحرير بعد انطلاق ثورة يناير 2011، كتب الصحفي والكاتب الإسرائيلي عوفر شيلح، مقالاً بعنوان “الديمقراطية ليست للعرب”، حيث استهل مقاله بالتأكيد على أنه “لا يوجد إسرائيلي عاقل لا يخشى من نتائج الأحداث في مصر، خاصة أن اتفاقية السلام بين إسرائيل ومصر مهمة للغاية، وأي إخلال بها يؤثر في جميع نواحي الحياة في إسرائيل”. هذا الرأي الذي عبر عنه صاحبه في لحظة غضب وقلق بالغين، لم يكن بعيداً عن موقف المؤسسة الرسمية الإسرائيلية من تطورات ثورة يناير، وما تلاها من تطورات الثورة السورية بعد اندلاعها، لما لهذين البلدين المجاورين لدولة الاحتلال، من أهمية استراتيجية كبيرة. ما بقيّ طيّ الكتمان حول فحوى السياسات الإسرائيلية، وخططها في التعامل مع تلك التطورات، كان يتضح تدريجياً بعد نجاح الثورة المضادة في مصر، وعودة حكم العسكر بقيادة السيسي، وعلى وقع تحولات الثورة السورية، والتداخلات والصراعات المركبة التي ألمّت بها، تبيّن على ضفاف تلك الانتكاسات والتحولات التي شهدتها الثورات العربية، تركيز الجهود الإسرائيلية على تحقيق مهمتين متكاملتين:
(الأولى) العمل على منع سقوط النظامين المصري والسوري، وحين سقط الأول عملت من وراء الستار، على تنشيط الثورة المضادة، من خلال أدواتها المصرية والعربية والدولية، وبعد أن استتب حكم العسكر على يد السيسي، خرجت عن صمتها السابق خلال ثورة يناير، وأعلن نتنياهو في أكثر من مناسبة، عن العلاقة الوثيقة والمميزة بين حكومته وحكام مصر الجدد. في حين لاتزال تواظب على الصمت الرسمي في موقفها بخصوص مستقبل النظام السوري، فإنها تعمل وتنسق في الوقت نفسه، مع كافة الأطراف الدولية والإقليمية والمُتدخلة، حول العديد من القضايا التي تتعلق بمصالحها في سورية. ولا يغيب عنها أن تفتح علاقات مع معارضين سوريين تحت عناوين مختلفة، لاختراق قوى الثورة والمعارضة، بما يجعل لها قدرة على التأثير في مختلف الأطراف السورية، بما يضمن أمنها ومصالحها في كل السيناريوهات المستقبلية.
(الثاني) تواظب القيادات الإسرائيلية على استثمار الصراعات، التي تعصف في دول الربيع العربي، وتلك المتعلقة بالصراع الخليجي – الخليجي، للانتقال بالتطبيع السري والخجول الذي كان يقوم بين “إسرائيل” والأنظمة العربية، إلى تطبيع علني يتجاوز الأنظمة السياسية وأجهزة مخابراتها ،إلى الأوساط السياسية والتجارية والثقافية والفنية والرياضية، على طريق إنهاء ثقافة مواجهة التطبيع، ومحو التطبيع كجريمة وطنية وأخلاقية من الوعي الجمعي العربي، ويجري ذلك برعاية الأنظمة العربية، بوصفه طريقاً لكسب الود الأميركي في عهد ترامب، قبل أن يكون خدمة مجانية لدولة غاصبة؛ تحتل فلسطين وأراضي عربية مجاورة، وفي مرحلة تصعّد فيها من استيطانها وتهويدها وسياساتها العدوانية بحق الشعب الفلسطيني. بمعنى أوضح يتم مكافأتها على جرائمها التاريخية والمتواصلة، وتطهيرها عبر تطبيع العلاقات معها من كل جرائمها المشهودة. حتى جامعة الدول العربية التي تجرّم أعمال التطبيع في قراراتها السابقة، تقف صامتة أمام ارتفاع حرارة التطبيع ووقائعه الصارخة.
الاندفاعة الإسرائيلية لتحقيق تينك المهمتين المتكاملتين، تعود إلى المناخ السياسي الذي وفرته لها أنظمة الاستبداد، وعلى رأسها النظام السوري، الذي قدم في حربه ضد الشعب السوري صورة وحشية بشعة، كانت “إسرائيل” المستفيد الأكبر منها، للتغطية على سجلها الإجرامي الأسود، وتأكيد مزاعمها التاريخية: ” أنها واحة الديمقراطية في منطقة قاحلة”. ربما كان من الصعوبة إزاحة تلك المقارنة، من قطاع واسع يتعرض يومياً لإجرام غير مسبوق، من قبل النظام الأسدي، ومع ذلك لم يقبل تجميل القبح الصهيوني، كما رأينا في مظاهرات أقيمت في عدة مناطق سورية محررة، للتنديد بقرار ترامب المتعلق بتهويد القدس. لكن من غير المقبول أن تصبح تلك المقارنة وسيلة لدى بعض نخب ونشطاء الثورة، لإثبات مدى خشونة جرائم النظام، أمام جرائم العدو الصهيوني ” الناعمة “، مع أن ” إسرائيل ” هي الأب الشرعي لعمليات الإبادة الجماعية، والتهجير القسري، والاعتقال وقتل أسرى الحرب، وتدمير البيوت فوق رؤوس أصحابها، وهي السبّاقة في تزوير الحقائق، واختلاق الأكاذيب، وتضليل الرأي العام، وما أساليب النظام السوري في التضليل، وقلب الحقائق، سوى سير على خطى أسياده.
كي لا يكون أهل الثورات والحرية ضحايا خداع المقارنات، لابد من التنبّه إلى أن جرائم الاستبداد الأسدي هي صنو جرائم الاحتلال الصهيوني، وأن جرائم الطرفين بأشكالها المختلفة، هي مصدر البلاء السوري والفلسطيني والعربي، وما كان للنظام أن يبقى على بطشه وتنكيله وقتله للشعب السوري، لولا وجود مصلحة إسرائيلية، في إكمال دوره حتى النهاية في استنزاف سورية، وتفكيك مقومات وجودها وقوتها. أما من يتسابقون إلى أحضان الكيان الصهيوني باسم “المعارضات” من أمثال كمال اللبواني وفهد المصري وعبد الجليل سعيد، وغيرهم ممن يقومون بذلك بالخفاء، فهم أكثر من يسيئون للثورة وقضيتها، لأنهم يشترون عبودية جديدة من سدنة الاستبداد، مقابل أدوار مأجورة لا تحيلهم أكثر من عملاء.