علي العبد الله
لم يوفق الأكاديمي وأول رئيس للمجلس الوطني السوري برهان غليون، في الإمساك بالعلة التي قادت إلى حالة السلب التي تعيشها قوى المعارضة السورية وجعلتها تنخرط في سجالات ومهاترات بينية، وتبتعد عن المهمة التي يرى أنه “حان” وقت التصدّي لها، والتي حدّدها في مقالته “حان الوقت لتجاوز طفولتنا السياسية” (العربي الجديد: 14/2/2020)، بـ”إيجاد مركز قرار يوجّه خطانا، ويثمّر جهودنا، ويعزّز من صدقية قوتنا السياسية، ويراكم الخبرة الضرورية لانتزاع حقنا في أن نقرّر مصيرنا بأنفسنا، أو على الأقل أن نشارك في القرارات التي تتعلق برسم مصيرنا الوطني، كسوريين”. مهمة على قدر كبير من الأهمية، لا ريب في ذلك، لكنه، وبدل التركيز على سبل تحقيق هذا الهدف الهام والنبيل، أهدر وقته وجهده في حديث مكرور عن حالة المعارضة وأمراضها الذاتية، وارتهانها لقرارات الدول الراعية، ومراهناتها على الآخرين لتحقيق بعض أهداف الثورة السورية، ودعوتها إلى العمل من أجل هذا الهدف، وفي توجيه نقد إلى الأطراف العربية والإقليمية والدولية التي اجتمعت تحت اسم “أصدقاء الشعب السوري”، والتي لم تقم بالدور المطلوب منها، “لافتقارها للإرادة والاستراتيجية والوسائل اللازمة لردع الأسد عن الاستمرار في حرب الإبادة وانتهاك قرارات مجلس الأمن”، وتخصيصه “الغرب الديمقراطي” بتهمة كبيرة “تردّد في الوقوف إلى جانب السوريين… وعمل على تشتيت قواهم بدل مساعدتهم على تنظيم أنفسهم ومواجهة أعدائهم”، في تناقضٍ واضح مع استهجانه مراهنة قوى معارضة على هذه القوة أو تلك لتحقيق أهداف الثورة السورية، خصوصا وكلنا يعلم أن “الغرب الديمقراطي” نفعي لا يقدّم خدماتٍ مجانية، ينتظر فوائد من أي فعل يقوم به، لا يتحرك من دون فوائد، لم يجد ثمارا مجزية لانخراط مباشر وقوي في قضية السوريين.
بداية، يمكن فهم حالة المعارضة الديمقراطية، وما تعانيه من ضياع وانعدام وزن في ضوء جملة أسباب بنيوية وتاريخية، غير انهماكها بالسجالات والمهاترات البينية والشللية والعصبوية، والارتهان للدول الراعية، فهذه كلها أعراض للحالة، وليست سببا لها، أولها هشاشة تكوينها السياسي والتنظيمي، ليس بسبب ضغط النظام، الذريعة التي تحرص على إبرازها والتستر خلفها، بل بسبب بنيتها الفكرية والسياسية، وفشلها في التعاطي مع المتغيرات المحلية والدولية، حيث كانت في معظمها يسارية، ماركسية وناصرية، اختلّ توازن أولاها، الماركسية، بانهيار المعسكر الشيوعي، وتشكل سحب من الشك حول الماركسية فكرا والاشتراكية نظاما، فتشتتت وتمزقت بين متمسّك بالموقف التقليدي ومراهن على توليفة جديدة، تحتفظ بجزء مهم من الموقف التقليدي بتأسيس تشكيلاتٍ هجينةٍ، تمزج بين فكرها القديم والنظام الديمقراطي الغربي، من دون بذل جهد لتأصيل هذا الخليط، فغدا التوجه الديمقراطي قشرا يغطي توجها ماركسيا مستترا، فما زال الثلاثي اليساري: إلياس مرقص وياسين الحافظ وجمال أتاسي، بوصلتها الفكرية ومرشدها الروحي، في حالة سلفية حديثة، لم تكشف عن عدم صلاحية الخليط الذي وضعته على كاهلها، كسلاح فكري وسياسي لمواجهة الواقع والنظام المستبد والفاسد، وتبحث عن مخرج بتركيبة منسجمة ومتسقة لمواجهة واقع جديد. ليس في اجتهادات مرشديها ما يلبي حاجتها للتعاطي معه ومواجهته. أصبحت كحالة الغراب الذي قلد الطاووس، فعلق بين الوضعين، لا أصبح طاووسا ولا عاد غرابا.
أما ثانيتها، الناصرية، فمأزقها أعمق ومأساتها أكبر، حيث بقيت في جلباب رمزها جمال عبد الناصر، من دون إعادة نظر ولو محدودة في تجربته وتراثه، رغم ما كُشف من سلبيات في هذه التجربة، خصوصا لجهة شخصنة السلطة والقضاء على الحياة السياسية بإخراج المجتمع من السياسة، عبر دمج الوظيفة السياسية في الأجهزة الإدارية، ودمج الوظيفة السياسية في الوظيفة الأمنية؛ بحيث أصبحت الأجهزة الأمنية عرّاب العمل السياسي والتنظيمي، وتقوم بالدور المفترض أن تقوم به الأحزاب السياسية، وتعميم مفهومٍ للسياسة قائم على اعتبارها مجموعة من المشكلات الإدارية يدور العمل حول حلها، وحول رفع الأداء، لا حول الخيارات والأولويات، ما يعني إلغاء الصراع الفكري والتنافس السياسي، وإلغاء العمل السياسي المستقل. نظامٌ تحكمه أجهزة بيروقراطية وأمنية لإدارة السلطة سياسيا واقتصاديا، بدلا من القوى السياسية والاجتماعية، وعلى حساب دورها وحريتها ومشاركتها في القرار الوطني، وارتباطها (القوى الناصرية) بآلية تفكير وعمل متمحورة حول التبعية للقائد، وعجزها، على الرغم من تبنّيها الخيار الديمقراطي، عن تجاوز قديمها الذي ثبت عدم جدواه في ضوء التغيرات العاصفة التي ضربت البلاد. وأما ثاني العوامل، فما ترتب على الهشاشة السياسية والتنظيمية: افتقارها رؤية وبرامج عملية لمواجهة الواقع السياسي وتحولاته المتسارعة، حيث بقيت عند الشعارات الفضفاضة والعموميات الساذجة، من دون تصور واضح وبرنامج محدّد للأهداف والغايات وطرق الوصول إليها. وثالثها حالة الانهيار التي أصابتها بعد تراجع الثورة، وفشل مراهنتها على تحقيق نصر سريع، والتي قادتها إلى الانخراط في المهاترات والسجالات الفارغة، لحفظ ماء الوجه والبقاء في حالة توازن نفسي شخصي، عبر تحميل الآخر مسؤولية الهزيمة، فالهزيمة يتيمة والنصر له ألف أب، كما يقول المثل الشعبي، ارتكاس نفسي لاإرادي للهروب من مواجهة الواقع والإقرار بالفشل ناجم عن الإفلاس والعجز. حالة شائعة عرفتها تجارب سياسية كثيرة، خاصة مع اقترانها بحياة المنفى.
لم تستطع المعارضة الديمقراطية لعب دور وازن في الثورة، لهشاشة تكوينها، من جهة، ولافتقارها للعمق الشعبي من جهة ثانية. لقد هرولت إلى إشغال موقع شاغر في الثورة، موقع القيادة، عبر الالتقاء مع بعض مسؤولي النظام، وطرح تصورات وحلول، أساسها التفاوض مع النظام من دون أن تكون جزءا من الفعل اليومي للثورة، ومن دون التفاهم والاتفاق مع الثوار، ومن دون التوقف عند مؤشرات صريحة وصادمة، تقول برفض النظام مبدأ المساومة، كما عكسته ممارساته واستخدامه العنف الصريح والمباشر، منذ اللحظة الأولى لانطلاق التظاهرات، فخسرت المحاولة، وبدل إعادة النظر في خطئها هذا، ورسم خط بديل قائم على الانخراط في الثورة، ولعب دور فعلي فيها، وتحمل قسط من تضحيات المواطنين، ارتكب رموزها غلطتهم القاتلة، بمغادرة البلد إلى المنافي، فخسروا صدقيتهم، وفرص لعب دور في الثورة، مهما كان حجمه أو مداه، على خلفية خسارة ثقة الثوار. وهذا وسّع الهوة بينهم وبين الثوار، وأعطى صورة سلبية عن استعدادهم للبذل والتضحية من أجل المبادئ والحقوق، إذ غدا واضحا أن القوى الديمقراطية أقل القوى استعدادا للتضحية، فما أن بدأ النظام بالقتل المباشر والاعتقالات، حتى بدأوا بمغادرة البلد زرافات ووحدانا. وهذا قطع حبل التواصل بينهم وبين الثوار والحاضنة الشعبية، وجعل كل محاولاتهم للتواصل واستعادة الثقة ضربا من المستحيل. هل لهذا علاقة بطبيعة الإيمان، وأن أصحاب الإيمان الديني أكثر استعدادا للتضحية والعطاء لقناعتهم بجزاء الآخرة؟
كرر الكاتب موقفا تبنّته المعارضة اليسارية والديمقراطية، يحمّل حركات الإسلام السياسي مسؤولية الخسائر السياسية بقوله: “الأثر السياسي المدمر لنزوع النخب السلفية إلى تصدّر الخطاب وواجهة الكفاح المسلح، ومحاولة الإسلام السياسي عموما ابتلاع الثورة وتجييرها لحسابه السياسي الخاص، بصرف النظر عن الدوافع والنوايا والتدخلات الخارجية، أقول لا يوجد شكٌّ في أثر ذلك كله على تراجع صدقيتنا السياسية وانقلاب الرأي العام العالمي علينا”…، وضياع فرصة استعادة “تأييد الرأي العام العالمي، بل العربي، وتعاطفه مع الثورة السورية وشعاراتها التحرّرية” بسبب ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) “قلب الصورة تماما، فيحلّ مصطلحات الجهاد والكفر والطائفية والإرهاب محل مصطلحات ثورة الحرية والكرامة والمواطنة والدولة المدنية التعدّدية”. بتجاهل تام لحق كل جهة سياسية في العمل على فرض رؤيتها وخيارها في إطار صراع الأفكار والبرامج، وارتباط ما حصل (تصدّر حركات الإسلام السياسي المشهد)، بأسباب كثيرة من قدرات سياسية وتنظيمية واستعدادات فردية ودعم خارجي كبير من قوى إسلامية، قريبة أو مماثلة، ومن دول لا تريد نجاح تجربة سياسية بإرادة شعبية. صحيح أنها ارتكبت كبائر سياسية وتنظيمية ومالية، خصوصا “داعش” وسلوكه المتوحش وجرائمه بحق المدنيين العزّل والتوجس الغربي من كل تنظيم وعمل إسلامي، على خلفية “غزوة واشنطن” وتبعاتها والأعمال الإرهابية الأخرى، لكن السبب الرئيس لخسارة المعارضة الديمقراطية، برأيي، وجود هوة واسعة بين حواضن الثورة ورؤية المعارضة الديمقراطية السياسية والاجتماعية، وفشل الأخيرة في جسر هذه الهوة، هذا إذا كانت تقرّ بوجود هذه الهوة وخطورتها وتدرك ضرورة العمل على جسرها، فشعارات “المواطنة” و”الدولة المدنية التعدّدية” شعارات نخبوية تتبنّاها قوى سياسية واجتماعية صغيرة، مدينية في الغالب، وذات تأثير محدود، غريبة على مسامع القوى الشعبية، خصوصا في البلدات الصغيرة والأرياف، والتي شكلت حاضنة قوية لقوى الإسلام السياسي التي تتمتع شعاراتها بجاذبية وحضور راسخ في المخيال السياسي والاجتماعي لهذه القوى الشعبية، ما جعل تشكيل ألوية جهادية ومكاتب شرعية وحسبة وبيت مال ورفع شعارات تنادي بالخلافة أو الإمارة التقليدية تحصيل حاصل، في حين أن كل المحدّدات والتصورات الحديثة بقيت برّانية بالنسبة للجسم الرئيس في المجتمع السوري، لم تدخل كل القيم والتصورات والمحدّدات الحديثة في صميم قناعة القوى الشعبية العريضة، ولم تلامس وعيها، وتغير من طبيعة مخيالها السياسي والاجتماعي، حيث ما زالت الخلافة نموذجها لنظام الحكم الصالح، وما زال أبو بكر نموذجها للحاكم الرحوم، وعمر بن الخطاب نموذجها للحاكم العادل، وعلي بن أبي طالب نموذجها للحاكم الشعبي، ومعاوية بن أبي سفيان نموذجها للحاكم الحاذق.
منح هذا حركات الإسلام السياسي أسبقية وأفضلية على أصحاب التوجهات الديمقراطية والحديثة، وقاد إلى تأييدها ودعمها والانخراط في صفوفها ومؤسساتها، والتغاضي عن كثير من ممارساتها وتعدّياتها وتجاوزاتها على حقوق المواطنين، على خلفية الإحساس بالقرابة والحميمية. ما زال مجتمعنا، في العمق، يراوح عند مرحلة الانتقال من النظام السلطاني، بتجسّده الأخير: السلطنة العثمانية، إلى نظام الدولة – الأمة، الدولة الوطنية أو القومية الحديثة، ولم يتجاوزها، وما زال التوجه الحديث نخبويا لم يخترق التشكيلات الاجتماعية الشعبية، ويقنعها بصلاحيته لحل مشكلاتها المادية والروحية، ما كان يستدعي مواجهة القضية والعمل على جسر الهوة مع الرؤى والقناعات الشعبية، بالبحث عن تقاطعات، وطرح تأويلات وحلول وسط تجعل الرؤى والخيارات الحديثة قريبةً من المزاج العام. لقد أخطأت المعارضة الديمقراطية بتجاهل هذا الاستحقاق مع ما للإسلام من موقع مركزي ودور في تكوين شخصية السوري، وانطوائه على طاقة ثورية عظيمة، ودفع قوي للتضحية في سبيل العقيدة والقيم الأخلاقية، فـ”الحقيقة المحورية الوحيدة أن الإسلام هو المحرّك الطبيعي للسياسة عبر العالم الإسلامي، ففي العالم الإسلامي يعتبر الإسلام مقياسا للعدالة والإنسانية والحكم الصالح ومحاربة الفساد، ويمثل مرجعية عقائدية للصراعات الداخلية ضد الحكومات الاستبدادية العلمانية، ولصراعات الأقليات المسلمة من أجل التحرّر من السلطات غير الإسلامية القاسية في كثير من الأحيان”، وفق غراهام فولر، (لوس أنجليس تايمز، الشرق الأوسط: 24/9/2001)، وتركها (المعارضة الديمقراطية) الإسلام لحركات الإسلام السياسي توظفه في معاركها الفكرية والسياسية، فتفوز بالشعبية، وبتحشيد القوى الاجتماعية حول شعاراتها وأهدافها. الأنظمة المستبدة والفاسدة هي الأخرى أدركت أهمية الموضوع وخطورته، وتعاطت معه بخبث وانتهازية، عبر حرص قادتها على تلبس مظهر التدين وحضور صلوات الجُمع والعيدين، واحتفال عيد مولد النبي والحج إلى بيت الله الحرام ورفع شعار حماية الدين والدفاع عنه.
ومع الاتفاق مع قول برهان غليون “فلا تنبع المشكلة التي نواجهها من الإرث الثقيل الذي خلفه الاستعمار، والذي تجسّد في التشكيل الجيوسياسي البنيوي الملغوم للمنطقة، وفي إدارته صراعاتها بما يضمن استمرار تبعيتها واختلال توازناتها وبؤس نموها فحسب، وإنما ينجم أيضا عن عجزنا عن تطوير أنماط من التفكير والسلوك الفردي والجماعي التي لا بد منها لتجاوز تفتتنا وتخبطنا الاستراتيجي، واستعادة المبادرة السياسية”. .. “ولن نتمكّن من بناء الديمقراطية التي هي هدفنا الأول، من دون أن نعمل على تكوين قوى ديمقراطية منظمة”، مع الاتفاق في ذلك، إلا أن ثمّة واقعا جديدا يحتاج إلى مواجهة ومعالجة، نجاح النظام في دفع أغلبية الشعب السوري إلى الانغماس في همومه الخاصة والتفكير في ظروفه المباشرة، ما جعل ويجعل محاولات الثورة والتغيير حرثا في بحر.