محمود الوهب
كثر الأخذ والرد بين السوريين أنفسهم وتناقضت أفكارهم حول تدخل تركيا اليوم في شمال غرب سوريا وفيما يسمى بـ: “درع الربيع” تماماً كما كان الموقف أيام ما سمي بـ “نبع السلام” وقبلهما “درع الفرات” و”غصن الزيتون” إذ إن الموقف الطبيعي، والبديهي بالنسبة للسوريين، في هذه الحال، هو رفض التدخل الأجنبي من أي جهة جاء، ولكنهم لم يرْفُضوه رغم أنه موقف لا تقره المشاعر الوطنية فحسب، بل تقول به أوليات الشرائع الدولية، ومع ذلك فقد حصل العكس، ويلاحظ أن من وقف إلى جانب التدخل التركي من السوريين ليسوا أفراداً، بل الآلاف منهم وربما الملايين، فهل يمكن اتهام هؤلاء جميعاً بانعدام الوطنية؟! إذاً لماذا حصل ما حصل وما دوافع ذلك الموقف العلني المدافع عن صحته يمكن إعادة ذلك إلى عدة أسباب يمكن إيجازها بما يلي:
أولاً: إنَّ الواقع السوري برمته قد فرض عليهم ذلك الموقف، وبغض النظر عمن ينظرون إلى تركيا على أنها الأصل وهم الفرع (تصريح لزهير سالم عضو تنظيم الإخوان المسلمين) فالمعتقد أن موقف السوريين والمهجرين منهم على وجه الخصوص (وهؤلاء ليسوا قلة إذ يقدرون بنصف سكان سوريا) يعود إلى أنهم قد وضعوا أمام أمرين أحلاهما مر فإذا ما اختاروا الموقف البديهي والطبيعي فذلك يعني أنهم وقفوا إلى جانب جلادهم وسبب بلائهم وبلاء وطنهم، كما يعني الوقوف إلى جانب الروس والإيرانيين وميلشياتهم المختلفة الذين استباحوا الوطن السوري وشعبه فقتلوا ودمروا وهجروا..
ثانياً: لأنَّ الوطن، في النهاية، ليس أرضاً وحدوداً وأحجاراً جامدة بل هو حياة وروح، وكل ما يمنح الإنسان شروط إنسانيته، وأسباب عيشه المادي والروحي، ولا شك في أن تلك الشروط والأسباب كان الاستبداد السياسي قد ألغاها كلياً، ولم يكتف بذلك فحسب بل أتى بالجيش الذي تدرّب على أن الرئيس هو الوطن ذاته ولا شيء غيره، وسلطه على الشعب وحين لم يرتو من دم السوريين التي سفكها الجيش العقائدي، ولم تعد البراميل المتفجرة تحقق شهوته الدموية استقدم الجيش الروسي ثاني أكبر جيش في العالم الذي يملك من الأسلحة ما يكفي لتدمير الكرة الأرضية كلها، فاستخدم منها ما استخدمه لجعل سوريا يباباً وليغدو الحاكم الفعلي لها إلى جانب الإيراني الذي سبقه بمجيئه وفعل المشين. إضافة إلى ما ترتبه أمريكا في الجزيرة السورية (حيث الثروات السورية الأكثر أهمية) وقد جاء اعتمادها على الحزب الذي رعاه حافظ الأسد على مدى حياته ليقف ضد تركيا نفسها، واضطر فيما بعد للخضوع إلى تركيا تحت ما سمي باتفاقية أضنة. وكل ذلك يشير إلى أن تركيا لم تدخل إلى بلد آمن ترعاه حكومة وطنية مستقلة بل إلى بلد مستباح، شعبه مشرد بإرادة حاكمه..!
ثالثاً: إن التدخل لم يأت هكذا دونما أسباب ومبررات، بل ثمة اتفاق أتى بناء على مبدأ اخترعه من استقدمهم النظام نفسه.. إنه مبدأ: “خفض التصعيد” وغايته السيطرة الكاملة على القرار السوري دون النظر لأسباب النزاع السوري/السوري في الأساس.. فلم يكن مبدأ خفض التصعيد لدى الروس غير تجاهل حقوق الشعب السوري لا تجاه المهجرين فحسب بل تجاه هؤلاء الذين أخرجوا من ديارهم تحت طائلة الموت! ويمنعون اليوم من العودة إليها تطبيقاً لفكرة “التجانس” التي أتى بها رئيس النظام لغاية استبدال الشعب السوري..! فـ”لا شيء يفسر هذا الإصرار الوحشي على التطهير السكاني، إبادة أو تهجيراً، وتدميراً منهجياً للعمران، وجرفاً واسع النطاق للأراضي الزراعية بما يعدم أسباب البقاء والحياة.. سوى تلك الغاية في التخلص من أكبر عدد ممكن من السوريين غير الموالين للنظام (…) أي الأغلبية السكانية”. (مقالة يوسف بزي الأحد 1 آذار تلفزيون سوريا).
رابعاً: إن ما يجري اليوم على الأرض، وبغض النظر عن أية حسابات هو تنفيذ لاتفاقات سوتشي التي أرادها الروس بديلاً عن مسار جنيف التي يمكن له أن ينصف السوريين..! فنابت في سوتشي عن السوريين نظاماً ومعارضة الدول الثلاث الضامنة لاتفاقيات خفض التصعيد، وقد نفذ بعضها، مع كل أسف، من خلال مسرحيات تفترض معارك بين الأطراف المتنازعة ذهب ضحاياها آلاف السوريين ودمار عشرات المدن والقرى.. وأولى بنود تلك الاتفاقيات تنص على إبقاء إدلب منطقة “خفض تصعيد” وتحصين نقاط المراقبة التركية واستمرار عملها على أن يضمن الروسي تجنب تنفيذ عمليات عسكرية وهجمات على إدلب، إضافة إلى مشاورات حول منطقة منزوعة السلاح بعمق 15- 20 كيلومتراً داخل منطقة خفض التصعيد.. وكذلك إبعاد جميع الجماعات الإرهابية الراديكالية عن المنطقة المنزوعة السلاح، بحلول 15 أكتوبر (تشرين الأول 2018). ومحاربة الإرهاب داخل سوريا بجميع أشكاله ما يعني أن المليشيات الإيرانية المصنفة دولياً بالإرهاب إلى جانب النصرة وغيرها داخلة في الاتفاق.. وثمة بنود أخرى تتعلق بسحب الأسلحة الثقيلة من أيدي الأطراف المتقاتلة بحلول العاشر من أكتوبر 2018 أيضاً، إضافة إلى الدوريات الروسية التركية المشتركة توفيراً لأمن المواطنين في تلك المناطق لممارسة أعمالهم وأنشطتهم الاقتصادية مع تحرير حركة الترانزيت عبر الطريقين حلب – اللاذقية حلب – حماة بحلول نهاية عام 2018..
خامساً: لاشك في أن الموقف التركي منذ البداية كان مريحاً للسوريين الذين وجدوا في تركيا ملاذاً آمناً من موت محتم يلاحقهم أو سجن شبيه يتربص بهم، وبغض النظر عن الرؤية التركية كدولة جوار تلزمها القوانين الدولية باستقبال اللاجئين خلال الحروب.. فغيرها، وبخاصة العرب، لم يفعلوا ذلك بل إن من فعل وخاصة اللبنانيين أذلوا اللاجئين ونالوا من إنسانيتهم..!
سادساً: لم ير السوريون من النظام الذي يولول اليوم حول هذا التدخل “الأجنبي” أي موقف تمليه عليه روح الوطنية أو إنسانية تقودانه إلى حلِّ لمشكلات الشعب السوري، كالعمل على استعادة وحدة سوريا وتحريرها من المتدخلين أجمعين بإرادة السوريين لا بغيرها وذلك بمرسوم جمهوري يفرج بموجبه عن آلاف المعتقلين السياسيين وآخر يسمح بعودة ملايين المهجرين إلى تركيا وغيرها..
سابعاً: السوريون اليوم كما الغريق يتمسك بقشة.. ولذلك يرون في أحد جوانب التدخل التركي دعوة لدول العالم وللأمم المتحدة للإسراع في إيجاد حل للمسألة السورية التي نزفت دماً وأحزاناً أكثر مما يجب.. ولعلهم يتوجسون خيفة من أخطار ماثلة أمامهم وتنذر بضياع سوريا كلها تقسيماً أو مناطق نفوذ أو تحكماً باقتصادها وثرواتها المعروفة أو المكتشفة حديثاً.. وهم متمسكون بحلٍّ يضمن عودتهم إلى بلادهم آمنين في ظل حكومة ديمقراطية تأخذ بالحسبان أطياف الشعب السوري عبر إشاعة الديمقراطية في البلاد السورية وأولها حرية الرأي والتعبير والإفساح في المجال للشعب ليقول رأيه في حاكمه وممثليه فيما آلت إليه سوريا من خراب ودمار ومحاسبة المسؤول الأول الذي أشعل فتيل الحرب بإطلاق الرصاص على المحتجين السلميين..!
موقع : تلفزيون سوريا