يخجل الانسان أن يفرد مقالًا مطولًا للحديث عن المعارك بين إخوة الدم والسلاح في الوقت الذي تجتمع فيه خنازير الأرض على الغوطة لإبادتها وقتل أهلها وإجبارهم على الركوع.. لكنه الواقع المر يفرض نفسه ويقتحم أبواب الفكر والوجدان دون طلب أو استئذان..
كنت قد كتبت مقالة بتاريخ 28 / 12/ 2016 بعنوان ” لله ثم للتاريخ ” حذرت فيها من عواقب عرقلة التفاهم ورفض الاندماج بين الفصائل الكبيرة في الشمال السوري والذي كان قاب قوسين أو أدنى من التحقق حينها، وبينت من خلالها أن النتيجة الحتمية لإفشال الاندماج – والذي حرض عليه العديد من الناشطين عن حسن نية أو سوء نية – هو حرب عبثية قاصمة بين الفصائل سيذهب ضحيتها شباب الامة الشرفاء، وستذهب معها تضحيات جسام وشلال من دموع ودماء سفكت بحثًا عن حلم الحرية المفقودة.. والتي ستعدم حينها جهارًا نهارًا على مذبح العمالة والغباء والانانية واللامسؤولية .. وهذا اقتباس من تلك المقالة:
“وفي الوقت الذي يتوقع فيه أن يؤدي الاندماج الحقيقي إلى تشكيل كيان واحد برأس واحد وجسم متماسك يتحرك بقرار مركزي فيوحد الجهود ، ويعقد التحالفات ويوظف المعارك في خدمة الأهداف الاستراتيجية للثورة السورية ، ويرفع المعنويات – التي تكاد تنهار – لدى القاعدة الشعبية المؤيدة للثورة. فإن رفض الاندماج سيؤدي إلى نتائج كارثية من ضمنها بقاء الفصائل مجرد أدوات تستخدمها القوى الاقليمية والدولية لتمرير أجنداتها وتحقيق مصالحها، والسماح للنظام الأسدي باختراق الفصائل واحتلال المزيد من المناطق الواقعة تحت سيطرتها، واستنزاف المزيد من الفعاليات المؤيدة للثورة وابعادها عن دعم الثورة بسبب يأسها من إمكانية إفراز قيادة تدير العملية باتجاه واضح وبأسلوب منظم.. لكن الكارثة الأخطر التي ستنجم غالبًا عن عدم الاندماج هو الحرب الداخلية بين الفصائل في المناطق الواقعة تحت سيطرتها .. إذ يخطئ من يعتقد أن قرار عزل الجبهة سينتهي بحل نفسها وتسليم أسلحتها ومغادرة مقاتليها خطوط التماس إلى بيوتهم، من جهة لأنهم أصحاب عقيدة صلبة، ومن جهة ثانية لأنهم يدركون أنهم سيتحولون إلى كبش فداء يذبح على طاولة المزاودات الوطنية وتصفية الحسابات الشخصية وصراع الأفكار والايديولوجيات وتقديم فروض الطاعة للجهات الخارجية الحاقدة.. إن عزل الجبهة سيؤدي إلى حالة من التوتر والغليان بين مقاتلي الفصائل المختلفة والموجودون في تماس مستمر، ما يجعل الساحة على فوهة بركان قابل للانفجار لأبسط شرارة وأصغر حدث.. وسنرى عندها الكثير من التصرفات المستفزة المدروسة من بعض الأفراد الذين يتحركون من داخل الفصائل لصالح سفارات خارجية وتحت إمرة مخابراتها.. وعاجلًا أم آجلًا ستشتعل الحرب بين الأخوة، وتسيل دماؤهم بأيديهم هذه المرة، وسيراقب النظام وأعوانه المشهد بنشوة الشامت المنتصر، وستنهار الثورة من الداخل ودون أية تكاليف إضافية مادية أو بشرية للعدو، والذي سيتدخل في اللحظة الحاسمة للقضاء على بقايا الفصائل المنهكة من قتالها فيما بينها.. هذا هو السيناريو المرسوم كنهاية لشيطنة الجبهة وعزلها.. فهل يتحمل أحد مسؤولية هذا السيناريو؟؟!! ” انتهى الاقتباس.
ليس الهدف من الاقتباس حتما أن أقول: لقد أخبرتكم ولم تسمعوا كلامي وهذه هي النتيجة.. فالوضع الميداني الكارثي أكبر بكثير من تحقيق انتصارات ذاتية وهمية لا وزن لها.. ولكن الهدف من ذلك أن يسارع العقلاء على الأرض لمنع استكمال السيناريو المذكور أعلاه حتى نهايته، والتي أراها محتومة ما لم يتدخل الحكماء لوأدها والاستفادة منها لتصحيح كامل المسار وإعادة ضبط البوصلة نحو الاتجاه المناسب المنسجم مع أهداف الثورة الكبرى..
منذ اللحظة الأولى لتشكيل جبهة تحرير سورية كان من الواضح أن الهدف الرئيسي لتشكيلها هو الهجوم على هيئة تحرير الشام من أجل تحجيم نفوذها ومحاولة القضاء عليها وليس من أجل أي هدف آخر أقله في المدى المنظور.. وبغض النظر عن النوايا من وراء هذا الصراع – وأنا شخصيًا أحسن الظن بمعظم المجاهدين الصامدين حتى الآن من مختلف الفصائل – فإن هذا الصراع هو خطوة بالاتجاه الخاطئ وربما يؤدي إلى نتائج كارثية لا يمكن لأحد السيطرة عليها، ذلك أن الأحداث لا تسير وفقا للنوايا والرغبات ، وإنما تولد من رحم الواقع المحكوم بظروف ومعطيات موضوعية تحتاج إلى قارئ جيد بعيد النظر يستنبط منها ويفك رموزها ويعدل اتجاهها لخدمة مشروعه وتحقيق أهدافه .. وقد يفعل الجاهل بنفسه ما يعجز عدوه عن فعله به..
يعتقد البعض – وتحت تأثير الإيحاء الإعلامي الموجه الهادف المتواصل – أن الحل لجميع مشاكل الساحة والمخرج لكل أزماتها يكمن بإنهاء الهيئة والتخلص منها ككيان، ويظن هؤلاء أن هذا الأمر سيوحد الصفوف ويعيد البوصلة بالاتجاه الصحيح ويزيل الحجة التي تتذرع بها معظم الدول لدعم نظام الاجرام الأسدي.. سأحاول أن أكون براغماتيًا قدر المستطاع وأفترض أن هذا الكلام صحيح، مع أنني مقتنع أنه ليس كذلك فجميعنا يعلم كيف تم تدمير داريا وحمص وغيرها دون أي تواجد لفصائل إسلامية فيها وبتغطية ودعم من ذات الدول التي تتذرع اليوم بوجود الهيئة سببًا لقصف المنطقة، وما يحصل في الغوطة اليوم شاهد يقلع عين كل سياسيي العالم السافل ويسقط كل ذرائعهم المكشوفة في التغطية على الجرائم التي يتعرض لها الشعب السوري.. ولكن لنفترض جدلًا أن تنحية الهيئة مفيد للساحة.. السؤال المهم هو.. كيف؟؟ وما هو الثمن المتوقع لتحقيق مثل هذا الهدف؟؟ ومن الذي سيستفيد منه؟؟ وما الضمانات التي ستقدم لمن يتصدى لهذه المهمة بعدم استغلال النظام الأسدي لهذا الصراع؟؟ وهل يمكن الوثوق بهذه الجهات وضماناتها وهي التي خذلتنا مئات المرات؟؟
جميعنا يعلم أن الطرفين المتصارعين اليوم على درجة من القوة والحضور الميداني يصعب معها القضاء عليها إلا عبر حرب طويلة الأمد تستنزف القوى وتسفك دماء الاخوة، أو بمساعدة دول تمتلك أسلحة متطورة.. ومن يظن أن القضاء على الهيئة أو على الأحرار سهل جدًا فهو أقرب للرومانسية منه للتحليل والقراءة الاستراتيجية للأحداث.. والرومانسية لا تصلح لإدارة معركة.. إضافة إلى كون الفصائل الأخرى غير منسجمة أصلًا ولا تمتلك ذات المشروع وليس لديها مرجعية مشتركة الأمر الذي سيؤدي فيما لو تم القضاء على الهيئة – وهو أمر صعب جدًا – إلى مزيد من تفكك الساحة وتشرذمها، وإلى مزيد من الصراعات المحلية على مستوى زعامة الحي والقرية والمؤسسة.. إن للطرفين قدرات وامتدادات وإمكانات تجعل من أي معركة بينهما مشروعًا لنار عظيمة تحرق الأخضر واليابس في المنطقة، ولا أظن أن مصلحة أحد من أعداء الأسد الحقيقيين تتلاقى مع نشوب مثل تلك المعركة.. إن المستفيد الوحيد من مثل هذه المعركة هو النظام الأسدي والذي سيتدخل حتمًا في اللحظة المناسبة التي أنهكت فيها قوى الاخوة الأعداء بمعارك بينية عبثية لا معنى لها، ليطلق الرصاصة الأخيرة التي ستنهي تلك الثورة لمصلحته وتنهي معها أحلام الملايين من السوريين في التخلص من مرحلة العبودية والظلم والاستبداد والحكم الطائفي..
ما الحل؟؟
على العقلاء من جميع الأطراف – سياسيين ومثقفين وقادة عسكريين ورجال دين – التدخل مباشرة من أجل احتواء الموقف وتطويق المشكلة ووضع حل جذري – وليس مرحلي – للنزاع القائم بين الفصائل في الشمال ، ويتم ذلك عبر استقطاب الهيئة واستيعابها ودمجها مع بقية أخواتها في الساحة ضمن مشروع جامع ذي أهداف محددة واستراتيجيات عمل واضحة وقيادة سياسية وعسكرية متفق عليها لها وحدها الحق في عقد التحالفات الاستراتيجية والتعامل مع الجهات الخارجية بالأسلوب الذي تراه مفيدًا وخادمًا لأهداف الثورة ومصالح المجتمع الحاضن لها وليكن ثمن هذه الخطوة تنازل القادة الشرفاء عن القيادة لصالح إخوانهم ولمصلحة الجميع .. وإن لم يحصل ذلك فلن يخرج من المعركة منتصر.. وسيشهد الشمال بعد حين ذات المآسي التي تشهدها الغوطة اليوم مع فارق كبير.. أنها في الغوطة على يد أعداء الأمة ومجرمي العصر وفي الشمال على يد إخوة السلاح ورفاق الدرب وجيران الحي وأصحاب الجباه النيرة.. وليتوقف المحرضون عن إشعال نار الفتنة والنفخ فيها لأنها ستحرق وجوههم.. فكل كلمة تفرق بين الاخوة، وكل خطاب يزرع الفتنة بينهم هو شرارة ستجد من الأعداء حتمًا من يصب الزيت عليها.