نحو تقويض هياكل المناعة المُكتسبة ضد التغيير
دعونا نتأمل معاً بأحوال واقعنا وتأثيراتها الرهيبة علينا، بوصفنا كتلة بشرية تنتمي إلى أسوأ مكان للعيش في العالم، لمجرد ذكره لابد أن يستحضر واحدة من أكبر مآسي القرن الجاري. لعلّ هذا السبب بالذات؛ يدفعنا كسوريين إلى مراجعة أنماط التفكير والاستجابات الذهنية والشعورية، التي باتت تحكم نظرتنا لأنفسنا ومنظورنا للآخر، منذ أن كشفت حقبة الثورة السورية، سياق صادم من الوقائع والحقائق والتحولات، اتضح أنها قلبت حياتنا رأساً على عقب، دون أن نعثر كجماعات مُعذبة ومُستضعفة، على مخارج أو حلول من المأزق المُحكم الذي بات يجثم على صدورنا. يُضاعف من سطوة وعسف هذا المأزق الوجودي، انتشار وباء كورونا العالمي، وخطورته الأكبر على المجتمع السوري، الموزع بين داخل يفتقد أغلب مقومات الحياة أساساً، ومنها الحد الأدنى من متطلبات السلامة والرعاية الصحية، وأشتات من اللاجئين تُخيم عليها الظلال السوداء التي حاكها هذا الوباء على حين غرّة. ثمة إذاً ضرورة لإعادة تعريف القضية السورية في زمن كورونا، ومناقشة تأثيراته العميقة على مصيرنا الوطني والإنساني، والتفكير بارتدادات هذا الوباء على السياسات الدولية والإقليمية، ذات اليد الطولى في الشأن السوري ومعضلاته الكبرى.
يشترط وعي تلك الضرورة، إلقاء الحجر الاستباقي على ذهنيات وأنساق وقوى، تحسب نفسها الممثل الشرعي لقوى الثورة والمعارضة، فيما لم تبارح طيلة السنوات الماضية من عمر الثورة، انزياحها المتواصل عن متطلبات التحرر السوري، وتبديد ممكنات تحقيقه. فيما لا تكف عن المواربة في تغطية العجز والفراغ الناجمين، عن تهميش حوامل التغيير المجتمعية، وتبرير الفشل في إدارة الصراع مع الاستبداد الأسدي والقوى الداعمة له، من خلال تسويغ استمرار عطالة دورها، والدفاع عن بنيتها المتكلسة، رغم مسؤوليتها عن إهدار نصاب شرعيتها التمثيلية والوطنية، التي كانت تحظى به في السنوات الأولى للثورة. يُقابل تلك الكتلة التي تُهيمن على مؤسسات المعارضة الرسمية، والأطر والاتجاهات الدائرة في أفلاك دورها الوظيفي، أنساق نخبوية متعددة على اختلاف اتجاهاتها الإيديولوجية والفكرية، تختصر مهام الاستجابات الفاعلة على الصعيد العام، إلى اعتبار نقد وانتقاد العطب في الأنا السورية، والغضب من مظالم النظام العالمي حيال القضية السورية، بوصفهما غايةً بحد ذاتها، كمن أدى قسطه من الواجب واستراح. حتى لم يعد ثمة تمايز من حيث الدور والفاعلية، بين الأطر السياسية والتفاوضية للمعارضة، وتلك الأنساق المستقلة عنها، والمتضررة من مواقفها وأدائها البائسين.
إذاً ليس الفشل في إنتاج البدائل عن تلك الأطر المفوّتة، سوى دليل فاقع على أزمة التفكير في الضفة المُقابلة لها، ولعل الواقع السوري حافل بالأمثلة التي تميط اللثام عن أضرار تغييب إرادة السوريين، وخساراتهم غير المحتملة، مع غياب مركز ثقل وطني، يُعيد الاعتبار والثقة لمفهوم الفاعلية الفكرية والحركية المُنتجة، كقيمة إنسانية جوهرية، واستجابة عقلانية راشدة، تستدرك أولويات التغيير الوطني، بعد أن كادت أمراض وعيوب التجربة السورية في محطاتها الفائتة، أن تطمس تلك الأولويات، وتشوه من مشروعيتها الكفاحية والأخلاقية. ما يدفع إلى إحياء مشروع التغيير السوري في تجلياته الجمعية، ليس فقط سطوة الأسئلة المصيرية الناجمة عن انتكاساته المتتالية، بل أن ثمة متغيرات كبرى في المشهد العالمي على وقع تداعيات جائحة كورونا، تشير بصورة أولية، إلى أزمات بنيوية أصابت الدول المتقدمة قبل غيرها، كشفت ولاتزال عن عيوب وثغرات كبيرة في أنظمتها السياسية والاقتصادية والصحية، لن تكون هذه الدول قبل غيرها، بمنأى عن تغييرات عميقة لا يمكن التكهن بتأثيراتها المستقبلية على نفسها، وبالضرورة على سياساتها تجاه قضايا شعوب المنطقة، ومنها قضية الشعب السوري على وجه الخصوص.
لا غلوّ في تقدير تداعيات محنة كورونا العابرة للحدود الوطنية والقومية، على قيم وسلوكيات النظام العالمي الراهن، وهي مسألة تتعدى المخاوف الغريزية المشتركة للأمم قاطبةً، إلى ولادة هواجس كبرى أطلقتها هذه الجائحة الصادمة، بحكم الآثار التدميرية لسياسات الهيمنة والنفوذ بين الدول الكبرى، على موجبات السلامة والأمن البشري، من منظور جديد يستشعر بقدر ما ينقض خطورة العولمة الرأسمالية المتوحشة، التي لم تعد أضرارها تمس حياة ومصالح الشعوب الفقيرة والمُستضعفة، وإنما كونها أيضاً منظومة قاصرة عن تحصين الشعوب المتقدمة، من كوارث بيئية وطبيعية مفاجئة ومُستجدّة، كمأساة كورونا المنتشرة بلا حدود. اليوم يواجه العالم تساؤلات وجودية عابرة للأمم وتصنيفاتها التقليدية، ومن ألحِّ تلك التساؤلات: جدوى السعار المحموم لسباق التسلح والحروب العسكرية والتجارية، في ظل القصور الفاضح لأولوية دعم أنظمة الرعاية الصحية!؟ وعن كيفية الانتقال من أولويات الإنفاق العسكري والأمني للدول والحكومات، إلى أولوية حماية حياة الإنسان كمسؤولية كونية تضامنية!؟ وإلى التساؤل الفلسفي الأبعد عن معنى صراع الحضارات والثقافات والهويات، أمام خطر فيروسي داهم وقاتل، يفرض يوماً بعد آخر، اختبار نظام الهيمنة المعولم، وسياساته المتصارعة التي تتعارض بقوة مع المصلحة العامة للبشرية جمعاء!؟
انشغال القطاعات الطبية في الدول المتقدمة بالعثور على لقاح كورونا، ربما سيؤجل البحث في الإجابات على تلك التساؤلات الحثيثة المشروعة، وعلينا أن نتوقع من الحكومات التي تدير الصراعات العالمية، أجوبة غير مأمولة ومُحبطة، تؤكد من خلالها على تمسكها بسلوكيات التدمير الذاتي. بيدَ أن العالم ما بعد كورونا، لن يعود إلى سابق عهده في تجاهل الأسباب الوطنية والعالمية التي تؤدي إلى ضعف مناعته الأخلاقية، طالما أن الأبعاد الإنسانية والأخلاقية ستكون في صلب الإجابات المطلوبة. على هذا النحو بوسعنا أن نتوقع انجدال المنطقة العربية بهواجس وتساؤلات عالم اليوم، لاسيما أن كورونا نزعت كل الأقنعة عن أنظمة الاستبداد، بأكثر ربما مما فعلته ثورات الشعوب العربية.
من نافلة القول: أن القضية السورية لن تكون بمنأى عن تأثيرات كورونا، بل ربما الأكثر تأثراً من غيرها، ومرد ذلك أنها من أكثر قضايا المنطقة، التي ينعكس عليها الصراع الدولي والإقليمي، ولا بد أن ثمة تحولات ستطرأ على الجوانب العسكرية منه على وجه الخصوص. على الأرجح ستفقد الدول الداعمة للنظام والمعارضة، شهية توظيفها للعسكرة، والذهاب أكثر نحو تسوية خلافاتها عبر التوافقات السياسية، لاسيما بعد أن أصبح كورونا دافعاً كبيراً، لإعادة رسم مصالح تلك الدول خارج حدودها، بمقاربات جديدة تختلف عن أسبقياتها المعروفة في إدارة الملف السوري. ما سيضاعف من حقيقة فشل النظام في إدارة أشلاء الدولة السورية، وهو الذي طالما استثمر في العسكرة للتغطية على فشله ذاك.
من مقتضى الإجابات الشافية، أن تحث تلك المتغيرات التي ستنال نصيبها من القضية السورية، كافة الجماعات والقوى السورية المستفيدة حقاً؛ من التغيير الجذري في الواقع السوري، ومن تصفية آثار حقبة الاستبداد الأسدي، على استعادة زمام المبادرة الوطنية، وإحياء دورها التاريخي في إعادة بناء الوطنية السورية، على أسس عقلانية وحقوقية وأخلاقية، تتلاقى مع النزعات الإنسانية المنفتحة، التي ستعزز التحديات الهائلة في زمن كورونا، من مشروعيتها المناهضة للظلم والتوحش والطغيان بكافة أشكاله. يستوجب التصدي لهذه المهمة التحررية الكبرى، نهوض وعي سوري جديد، يقطع معرفياً وسلوكياً ونفسياً مع ذات الأمراض والعيوب الأوهام، التي أعاقت بلوغ السوريين إلى بر الأمان.
سيكون مخزياً ومعيباً بحق كل التضحيات التي بذلها السوريون في زمن الثورة، أن يتغير العالم من حولنا بصورة ربما أكثر مما نتخيل، فيما نتمسك بمناعتنا العصية على تغيير أنفسنا نحو الخلاص الحقيقي.