بين فيشمان و كونور هايني
في أوائل نيسان/أبريل، وبعد عام واحد من بدء القوات التي تطلق على نفسها اسم “الجيش الوطني الليبي” برئاسة اللواء خليفة حفتر، هجومها المستمر على طرابلس، استولت القوات المتحالفة مع “حكومة الوفاق الوطني” المعترف بها دولياً على ستّ بلدات غرب العاصمة وتقدّمت نحو “قاعدة الوطية الجوية” التي تشكل نقطة إمداد رئيسية لـ “الجيش الوطني الليبي”. ومنذ ذلك الحين، بقي القتال محتدماً في جنوب طرابلس والمناطق المحيطة ببلدة ترهونه التي زودت “الجيش الوطني الليبي” خلال العام الماضي بجزء كبير من القوات والمساندة المحلية.
ونتجت عمليات الزحف البري جزئياً عن الانتصارات التكتيكية التي حققتها ميليشيات “حكومة الوفاق الوطني” ضد المرتزقة السودانيين الأدنى مستوى الذين يقاتلون إلى جانب “الجيش الوطني الليبي”، وسط تقارير عن تخفيضات في عدد متعهدي الشركات العسكرية الخاصة المتعاقدة مع “مجموعة فاغنر الروسية” التي أطاحت بقوات “حكومة الوفاق الوطني” بين أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر. ومع ذلك، كان التحوّل الجوهري في الحرب الجوية هو الذي لعب الدور الأكبر في تمكين “حكومة الوفاق الوطني” من تحقيق أكبر انتصاراتها منذ بداية هذا العام، من خلال الدعم التركي الذي ساعدها على استعادة جزء كبير من محيط العاصمة.
إن كيفية رد حفتر وداعميه في الإمارات العربية المتحدة وبلدان أخرى على نكساتهم ستحدد المرحلة التالية من الحرب الأهلية في ليبيا. ويبدو أن الهزائم التي مُني بها اللواء حفتر دفعته إلى الدعوة إلى وقف إطلاق النار في 29 نيسان/أبريل بعد أن كان قد رفض الدعوات السابقة في آذار/مارس وبداية رمضان؛ وفي موازاة ذلك، أصدر اللواء حفتر في 27 نيسان/أبريل إعلاناً عاماً بفرض الحكم العسكري في كافة أنحاء البلاد. وفي غضون ذلك، يشير استمرار تعرض طرابلس للقصف المدفعي – الذي تسبّب في سقوط عشرات الضحايا من المدنيين وتدمير البنية التحتية الحيوية مثل المستشفيات – إلى أن القتال المحلي قد يستمر لبعض الوقت، خاصة إذا أعاد “الجيش الوطني الليبي” التسلّح.
الهيمنة الجوّية الأولية لـ “الجيش الوطني الليبي”
عندما اندلعت المرحلة الراهنة من الحرب في نيسان/أبريل 2019، اعتمدت “حكومة الوفاق” على “أنظمة الدفاع الجوي المحمولة” والمدافع الصغيرة لمنافسة خصمها على السيطرة الجوية، واستخدم الطرفان المتنازعان مجموعاتهما الصغيرة من مقاتلات الحقبة السوفيتية ولكن بتأثير محدود. غير أن “الجيش الوطني الليبي” نجح في الشهر التالي في التفوّق على خصمه من خلال توسيع استخدامه للأنظمة التي تديرها الإمارات بعد أن تعثرت محاولات حفتر الأوّلية للسيطرة على طرابلس. وحافظ “الجيش الوطني الليبي” على هذا التفوق الجوي العام حتى تشرين الثاني/نوفمبر.
إنّ الطائرة القتالية المسيّرة الرئيسية التي نشرتها الإمارات في ليبيا هي من طراز “وينغ لونغ 2” ذات التصميم الصيني، وهي مشابهة في الحجم والقدرة لطائرة “أم كيو-9” الأمريكية وتوفر معلومات استخبارية وأفضلية واضحة في الضربات لـ “الجيش الوطني الليبي” (وتم رؤية هذه الظاهرة أيضاً عندما استخدمت القوات الإماراتية هذه الطائرة في اليمن). وأثبتت طائرات “وينغ لونغ” فعاليتها بشكل خاص في استهداف مجموعة الطائرات المسيّرة الصغيرة التي قدّمتها تركيا إلى “حكومة الوفاق” بعد أن أطلق حفتر حملته في نيسان/أبريل الماضي. واستهدفت الطائرات المسيّرة الإماراتية المحطات الأرضية والمطارات الخاصة بتلك المجموعة، مما منعها من توفير الإمكانيات نفسها لـ “حكومة الوفاق الوطني”.
واستخدم “الجيش الوطني الليبي” أيضاً الطائرات المأهولة في بعض الأحيان التي تسبّبت بدمارٍ كبير بين الحين والآخر. وخلصت التحقيقات الدولية في عمليات القصف التي أوقعت أعداداً كبيرة من الضحايا في المناطق المدنية حول طرابلس خلال تموز/يوليو وتشرين الثاني/نوفمبر إلى أنّ الطائرات المقاتلة كانت مسؤولة عن هذه الحوادث – على الأرجح طائرات “ميراج 2000-9” التي تنطلق من “قاعدة الخادم الجوية” الإماراتية شرق بنغازي.
وسعياً لترسيخ هذا التفوق الجوي، عززت الإمارات أيضاً ترسانة الصواريخ أرض – جو التابعة لـ “الجيش الوطني الليبي” عبر إضافة العديد من صواريخ “بانتسير-أس1” إليها. وساعدت أنظمة الصواريخ أرض-جو هذه قوات حفتر على حماية الأهداف العالية القيمة من الطائرات بدون طيار وبعض الطائرات المأهولة التابعة لـ “حكومة الوفاق الوطني” (على الرغم من معاناتها بعض الخسائر وفقاً لبعض التقارير).
تركيا تثير تحوّلاً حاسماً
بعد التوصل إلى اتفاقيات دفاعية مع تركيا خلال تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، سارعت “حكومة الوفاق الوطني” إلى تغيير المعادلة في الحملة الجوية. وبفضل تباطؤ وتيرة القتال خلال فترة انعقاد مؤتمر برلين في كانون الثاني/يناير، تسنّى للشريكَين العسكريين فرصة تكوين طبقة حماية جوية حول العاصمة، عبر نشر عدة أنظمة صاروخية أرض – جو داخل “قاعدة معيتيقة الجوية” وحولها. وأدى الجمع بين الأنظمة الصاروخية الأمريكية الصنع والمتوسطة المدى من نوع “أم آي أم-23 هوك”، والصواريخ أرض – جو القصيرة المدى من نوع “حصار”، والمدافع المضادة للطائرات من طراز “كوركوت”، إلى إنشاء نظام حماية متعدد الطبقات حول البنية التحتية الحيوية، وتقليص التهديدات المحدقة بالمحطات الأرضية للطائرات المسيّرة التابعة لـ”حكومة الوفاق” وعمليات إطلاقها. وسمحت هذه الحماية، إلى جانب زيادة عدد المشغّلين الأتراك والمعدات التركية، لقوات الحكومة الليبية بزيادة عدد عملياتها بالطائرات بدون طيار وفعالية هذه العمليات.
وتستخدم “حكومة الوفاق” بالدرجة الكبرى الطائرات المسيّرة التركية من نوع “بيرقدار تي بي2″، وهي أصغر وأقصر في المدى من طائرات خصومها في “الجيش الوطني الليبي”، ولكنها توفّر قدرات استخباراتية مهمة وتسمح بتوجيه ضربات دقيقة. وتُستخدم هذه الطائرات لمهمتين في المقام الأول: أولاً، توسيع نطاق الوعي في ساحة القتال لدى “حكومة الوفاق” من خلال اعتماد آليات الاستطلاع والحظر ضد خطوط الإمداد التابعة لـ “الجيش الوطني الليبي”. ثانياً، تنفيذ ضربات مستهدفة. وقد استخدمت تركيا طائرات “بيرقدار” بفعالية مماثلة في سوريا، حيث أفلحت الطائرات المسيّرة في بيئة أكثر تقليديةً تُستخدم فيها الأسلحة المتنوعة من المدافع الداعمة والضربات بواسطة الطائرات الثابتة الجناحَين.
كما عملت أنقرة على حماية “قاعدة معيتيقة الجوية” بواسطة نظام التشويش “كورال” الذي يُسوَّق على أنه قادر على التغلب على رادارات صواريخ “بانتسير” وترددات ربط البيانات في الطائرات المسيّرة من طراز “وينغ لونغ”. وهذه القدرة على التشويش المزدوج يمكن أن تفسّر تنامي قدرة الطائرات بدون طيار لـ “حكومة الوفاق” على الصمود وأعمال التعطيل الأخيرة التي تعرّضت لها عمليات “الجيش الوطني الليبي” بالطائرات المسيّرة.
استمرار التصعيد أو وقف إطلاق النار؟
على الرغم من أن تركيا قد خلّفت وقعاً حاسماً على المعركة من أجل طرابلس، إلا أنها ستضطر إلى تعزيز مساهماتها العسكرية إلى حدٍ كبير إذا ما أرادت مساندة أي هجوم محتمل لـ “حكومة الوفاق” فيما يتخطى شمال غرب ليبيا. وبالمثل، إذا قررت الإمارات مواجهة الوجود التركي في البلاد وسلب مكاسب “حكومة الوفاق”، فقد تضطر إلى اتخاذ إجراءات باهظة الثمن تنهي أي إنكار معقول لا يزال يحيط بدورها العسكري غير المعترَف به في ليبيا. وتشير هذه الديناميكيات إلى توفر حلّ وسط أمام كلا الطرفين للعودة إلى المفاوضات.
وسوف تستند الحسابات التركية إلى طبقة الحماية التي ساهمت في إقامتها حول طرابلس، والتي لا يمكن توسيعها الآن إلا بالاستناد إلى القيود التقنية ومحدودية المعدات. ويبلغ المدى العام لطائرة “بيرقدار” 150 ميلاً فقط، وتتطلب خط تسديد مباشر، مما يعني أن أي عمليات يتم شنّها شرق سرت قد تتطلب من أنقرة و”حكومة الوفاق” نشر محطات سيطرة أمامية أو بناء أبراج ترحيل – وكلاهما سيكون عرضة لهجوم مضاد من قبل “الجيش الوطني الليبي”. بالإضافة إلى ذلك، أنّ إمكانيات التشويش والصواريخ أرض – جو في طرابلس فعالة بفضل طبيعتها الطبقية. لذلك، فإنّ توسيع نطاق هذه التغطية المكثّفة إلى خارج العاصمة قد يستدعي نشر المزيد من أنظمة الصواريخ أرض – جو بتكلفة ومخاطر متزايدة.
وقد استفادت “حكومة الوفاق” أيضاً من العمل بخطوط إمدادٍ قصيرة نسبياً – وهي ميّزة قد تختفي في هجوم أوسع نطاقاً يتطلب عمليات لوجستية متقدمة لتوفير الوقود والأسلحة وقطع الغيار والتجهيز. وتدعم تركيا بالفعل عمليات ضخمة في شمال غرب سوريا، ولذلك قد يتعذّر عليها القيام بالمثل في شمال غرب ليبيا بسبب تشتت مواردها إلى حدٍّ كبير. وفي هذا السياق، ثمة هدفٌ أكثر واقعيةً وهو دحر قوات “الجيش الوطني الليبي” خارج مرمى المدفعية في طرابلس والقبول بوقف إطلاق النار بموجب اتفاق يمكن التحقق منه دولياً في تلك المرحلة.
وبالمثل، قد تواجه الإمارات العديد من المخاطر في أي حملة تشنّها لاستعادة زمام المبادرة في الجو. وفي حين أن القوات الإماراتية قادرة على تنفيذ “مهام قمع نُظم الدفاع الجوي المعادية”، إلا أن القيام بذلك في ليبيا قد يعني على الأرجح إرسال مقاتلاتها من نوع “أف-16إي/أف” التي لم تنخرط في القتال حتى الآن. وقد تستحث هذه الخطوة شن ضربات انتقامية من قبل وحدات سلاح الجو التركي، التي أجرت تمارين في منتصف نيسان/أبريل أظهرت قدرتها على استعراض القوة عبر شرق البحر الأبيض المتوسط بطائرات “أف-16” وإمكانيات التزود بالوقود. كما أنها قد تزيد خطر وقوع ضحايا في صفوف المدنيين، مما يعرّض الإمارات لرد فعل سياسي في الكونغرس الأمريكي بسبب استخدام أنظمة أمريكية الصنع لتحقيق تلك الغايات. إن استغلال أي اتفاق محتمل لوقف إطلاق النار لإعادة تسليح حفتر من شأنه أن يعرّض الإمارات لمشاكل إضافية؛ وبحسب أجهزة تعقّب الرحلات الجوية، تم تسليم أكثر من 150 عملية شحن ثقيلة إلى شرق ليبيا عن طريق الجو منذ كانون الثاني/يناير وحده؛ وإذا استمرّت أو ازدادت هذه الحركة عند توقّف القتال، فسيكون ذلك واضحاً بشكل سافر.
ونظراً للخيارات المحدودة لأنقرة وأبو ظبي لتصعيد الموقف بتكلفة منخفضة، فمن الممكن أن تتجاوبان مع تجدد الضغط عليهما لإقامة خط دائم لوقف إطلاق النار، يحمي المدنيين داخل طرابلس وحولها. وسواء كان من الممكن إحياء عملية برلين أو الحوار العسكري بين “حكومة الوفاق الوطني” و”الجيش الوطني الليبي” أم لا، فمن الضروري أن يُظهر مجلس الأمن الدولي المنقسم بشكل دائم، قدر أكبر من الوحدة من أجل إنجاح اتفاق وقف إطلاق النار؛ ويشمل ذلك، الاتفاق على مندوب خاص جديد واعتماد قرار يجدد صلاحيات “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” ومواردها اللازمة لمراقبة الخط الذي يتم التفاوض حوله. وفي موازاة ذلك، يجب على الولايات المتحدة تشجيع جميع الأطراف – وخاصة الإمارات العربية المتحدة وتركيا – على قبول أي خط يتم إضفاء الطابع الرسمي عليه، وتقديم الموارد الاستخباراتية اللازمة للمراقبة والتحقق من امتثال كل طرف والجهات الخارجية الداعمة له بهذا الالتزام.
بين فيشمان هو زميل أقدم في معهد واشنطن والمدير السابق لشؤون شمال إفريقيا في “مجلس الأمن القومي” الأمريكي. المقدم كونور هيني (سلاح الجو الأمريكي) هو زميل عسكري في المعهد، وعمل سابقاً كرئيس لقسم الحرب الجوية الأمريكية في “قاعدة الظفرة الجوية” في الإمارات العربية المتحدة. الآراء الواردة هنا هي آراء المؤلفَيْن ولا تعكس السياسة الرسمية أو موقف “وزارة الدفاع الأمريكية” أو “سلاح الجو الأمريكي”.
المصدر: معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى