خاص لموقع مصيروملتقى العروبيين arabiansforum.net والمدارنت
أثار الفيلم الذي بثته، قبل أيام، قناة الجزيرة_ البودكاست، عن الإرهابي العالمي الهالك قاسم سليماني قائد الحرس الثوري، ردود فعل غاضبة ومستاءة بشكل واسع في أوساط السوريين والعرب، وفتح سجالًا حاميًا عن السياسة الإعلامية لقناة الجزيرة، عمومًا، وعن مصداقيتها المهنية خصوصًا، في تغطياتها وتحليلاتها ومواقفها من الأحداث المصيرية التي تمس مصير شعبنا السوري وبقية شعوبنا العربية طوال السنوات الأخيرة، واتسع السجال إلى علاقة الإعلام بالسياسة، بالمجمل، وعن سياسة دولة تمولها وتحتضنها.
لا يخفى على أي متابع التحولات التي مرت بها القناة منذ انطلاقتها عام 1997، في فضاء الإعلام المرئي، والتي أتت في ذروة تحولات عالمية مثلتها ثورة المعلومات والاتصالات، التي أحدثت ثورة في مفاهيم كثيرة، كالسيادة، والقانون، وحدود حرية التعبير، تحت الشعار الأبرز لسمة العصر الذي نعيشه: حقوق الإنسان، كما هو منصوص عليها في الشرعة الدولية.
وفق ذلك اكتسبت قناة الجزيرة مصداقيتها، وتأثيرها في الرأي العام العربي، بانحيازها لقضايا الحرية والعدالة والمساواة، ورفع الظلم عن كاهل الشعوب، والتبشير بضرورات التعدد والرأي الآخر، مساهمة منها في نهضة عربية واسعة، مبتدأها حرية الكلمة والإعلام الحر.
أصبح الفيلم الذي انتجته وعرضته الجزيرة، مثار جدل، بسرعة، وحاز تقييمه اجماعًا نادرًا بوصفه فضيحة مهنية، كما أراد البعض أن يقول، بل هو فضيحة أخلاقية وسياسية بامتياز، وتتويجًا لانحراف القناة عن مبادئها وشعاراتها الأولى، التي تعهدت بالاستمرار عليها، ولكنها سرعان ما حنثت بها، وتحولت بقرار من مالكيها أداة دعاية سياسية مكشوفة لصالح تيار سياسي بعينه، محمولًا على محور إقليمي، ما يذكرنا بالإعلام الموجه في أزمان خلت لدول ونظم بائدة، طبيعتها شمولية، سعت لبرمجة إنسانها وتوجيهه حيث تريد.
هنا تطرح قضية الإعلام والسياسة ذاتها بقوة، وما بينهما من فواصل وتخوم، خدمة لمشاريع وارتباطات وأجندات، تستهدف المنطقة وتكوينها ودورها، في حمأة صراعات باتت مكشوفة، هي قضية حياة أو موت(لأمة) بأكملها مستهدفة بوجودها ومصيرها.
صحيح أن القناة حذفت الفيلم، ومن ثم أجرت عليه بعض التعديلات، في خطوة ظاهرها التراجع، إلا أن ذلك لا يخفى على أي حصيف في غاياتها ومعانيها، فالقناة تملك الكثير من الإمكانات والخبراء المتخصصين للتسويق لمادتها بما في ذلك المؤثرات السمعية والبصرية والنفسية، باستخدام أحدث التقنيات وتطبيقات علم النفس، لتأدية رسالتها والوصول إلى أهدافها، بخلق تيار عربي واسع يتبنى رؤيتها، وسردياتها، التي كثيرًا ما تنكرت للحياد والنزاهة والحقيقة، وخانت الموضوعية، وهو ما يجعلنا بمرارة وحسرة نأسف على قناة أوهمت الشارع العربي بأنها رافعة ثقافية ومعرفية له جادة ورصينة.
والأخطر أن الفيلم المشار إليه يعكس سياسيًا مدى توغل وتوسع المشروع الإيراني (الفكري والإعلامي) في المنطقة، وقدرته على توظيف دول، ووسائل إعلام ومراكز أبحاث، وقوى وجماعات سياسية، من اليمن إلى العراق، مرورًا بسورية ولبنان، وغيرهما، من بلدان المنطقة في ظل انكشافها، مستفيدة من انحسار المشروع النهضوي العربي، التحرري الذي يستهدف انتشالها من مأزقها الحالي.
الأمر أبعد من فيلم يسوق لمجرم دولي ويصفه بالشهيد “قضى لأجل القدس وفلسطين” في محاولة رخيصة لاستغلال عواطف الجماهير في زعمها الباطل بالدفاع عن الأمة ومقدساتها، التي رأت أن طريق القدس يمر من القصير والزبداني وغوطة دمشق وحلب، وتدمير البيوت على ساكنيها، وتهجير أهلها، وإحداث تغيير ديمغرافي، كان “البطل والمهندس” له ذلك، الحاقد الطائفي الكريه، الذي خصته الجزيرة بفيلمها الذي لا يستهين بالشعب السوري أو اللبناني أو العراقي أو اليمني فقط بل يهين ويستهين بكل الأمة العربية، والأمر نفسه ينطبق على العواصم العربية الأخرى التي يمر منها طريق القدس، بغداد وصنعاء وبيروت.!
لا بد من القول للأسف أنه في زحمة الإعلام العربي الذي تغلب عليه الغثاثة والسطحية، تتصارع الأجندات التي تحاول تشكيل ذهنية المتلقي العربي، وخلق ثقافات جديدة، واصطناع هويات ومفاهيم مغايرة، وولاءات مذهبية وطائفية، تنسف المرتكزات والثوابت الحضارية التي استقرت في الوجدان والضمير، قروناً عديدة، وهذا لا يعني بحال من الأحوال أننا ندعو للجمود والتكلس، بل نحن في طليعة الداعين للتجدد الحضاري ولتوسيع أفق الحرية في بلادنا، وقراءة التاريخ والواقع قراءة علمية، ضمن منهج جدلي يدفع بالأمة، وشعوبها، لاستعادة دورهما التاريخي المستلب والغائب.
في عالم اليوم، وأمام قوة الصورة ودلالاتها، التي تملكها قناة الجزيرة، كما أشرنا، اختارت لفيلمها الذي يمجد القاتل المجرم، صورة له يقف على أنقاض مدينة حلب المدمرة، بكل رمزية هذه المدينة العظيمة، السياسية والتاريخية، باعتبارها أحد أعرق مراكز الحضارة العربية والعالمية عبر التاريخ منذ القديم إلى الحاضر، فضلاً عن أهميتها الثقافية والاقتصادية، لتظهر القاتل الارهابي الغازي “بطلًا مظفراً “، في مشهد يذكر بأحط مجرمي الحرب، ورموز الجيوش الهمجية التي تبيد الشعوب المسالمة ومقدساتها، وتدمر شواهد حضارتها الخالدة، بلا سبب ولا مبرر سوى الحقد والضغينة وشهوة التوسع.
نحن في الموقع إذ نعبر بصراحة تامة وقوة عن سخطنا وغضبنا على سقوط (الجزيرة)، ومثيلاتها، إذ تسترخص كرامة العرب كلهم وتستخف بوعي شعوبنا، وتتجنى على الحقيقة وتمجد أحقر النماذج الارهابية في هذا العصر وعلى مستوى العالم، فإننا نعتبر الجزيرة ومثيلاتها شريكة فاعلة في العدوان على شعبنا السوري، وعموم الشعوب العربية، ونشجب ما قامت به الجزيرة، لأنه لم يكن زلة أو هفوة بل عملًا مقصودًا ومخططًا لإرضاء إيران والانبطاح أمامها، ويعبر للأسف عن سياسة تجلت في الأعوام الأخيرة انحيازًا سافرًا إلى جانب إيران في عدوانها المتواصل على الأمة العربية كلها.