د- عبد الناصر سكرية
نشأت أقدم الحضارات الإنسانية وترعرعت على أرض البلاد العربية الراهنة. فمن حضارة اليمن العريقة إلى حضارة مصر الفرعونية إلى حضارات ما بين النهرين وبلاد الشام وسورية (ومنها لبنان وفلسطين) إلى حضارات بلاد المغرب وقرطاج. جميعها كانت حضارات متميزة متقدمة في عصرها سبقت كل حضارات العالم الأخرى وتقدمت عليها فيما أنتجته من تشريعات وقوانين وعمران وثقافات بلغ امتدادها إلى أوروبا وعاصمتها آنذاك روما.
كانت لكل حضارة لغتها الخاصة فتميزت بها عن سواها لكنها كانت ذات منشأ جذوري واحد ومنبت جغرافي متشابه متقارب؛ مما جعلها متشابهة في كثير من التعابير وأصول الكلام إلى أن تشابكت وتفاعلت فيما بعد فظهرت اللغة العربية بصيغتها القرآنية المعروفة.
كانت حركة التفاعل والتبادل بين أبناء تلك الحضارات قائمة غير مقطوعة لتوفر عوامل القرب الجغرافي والتشابه المكاني والجذور المتقاربة والمنبت المتلاقح.. مما جعل بينها كثيرًا من أوجه الشبه وأواصر التعاون والعمل المشترك في كثير من الوجوه.
كانت تلك الجماعات البشرية تقترب من بعضها وتتبادل وتتفاعل متهيئة لشيء من الانصهار يجعل منها تكوينًا اجتماعيًا واحدًا مؤهلًا ليشكل أمة واحدة. ولكن تعرض المنطقة لاحتلالات أجنبية من قبل قوى عسكرية غاشمة غير متحضرة ومجاورة، جعلها تمتنع موضوعيًا عن اكتمال مشوارها التفاعلي الحر فيما بينها؛ فلم تنصهر وبقيت مجموعات بشرية مستقلة وإن كانت لديها الكثير من عناصر التكوين المتقاربة المتشابهة؛ فلم تكون أمة واحدة.
كان احتلال بيزنطة لجزء من المنطقة واحتلال الفرس لأجزاء أخرى سببًا رئيسيًا في تعطيل عملية التفاعل فالانصهار فيما بين تلك الجماعات البشرية. وكان الفرس والبيزنطيون قوى عسكرية فتية غير متحضرة فلم تنقل إلى هذه البلاد شيئًا من الإضافة الحضارية بل كانت استنزافا لقواها البشرية في حروب الكر والفر التي كانت تحدث بين قوتي الاحتلال الإمبراطوريتين العسكريتين. وفيما خلا المدة الزمنية القصيرة نسبيًا التي احتل فيها اليونانيون مصر فأثروا حركتها الثقافية وفتحوا مجالًا لبعض الحركة التبادلية الثقافية. إلى أن شملهم العدوان الفارسي فتراجعوا. إلى أن جاء الإسلام.
الإسلام وتكوين الأمة العربية
شكل الإسلام حركة تحرير لكل الأرض الممتدة بين المشرق والمغرب؛ أي الأرض العربية الحالية؛ فحينما انتصر على البيزنطيين والفرس معا؛ حرر هذه الأرض فتحررت جميع الأقوام والجماعات البشرية التي تعيش عليها من الاحتلال الأجنبي؛ وظهرت دولة جديدة متجانسة مع سكان البلاد جميعًا من حيث الانتماء إلى ذات المنبت والجذور والمعالم اللغوية والثقافية.
حمل أهل الحجاز والجزيرة العربية الإسلام إلى هذه الجماعات ولم يفرضوه دينا عليهم. فبقي المسيحيون واليهود وطوائف أخرى صغيرة على دينها.
لكن هؤلاء القادمين الجدد الآتين من الجزيرة العربية حملوا معهم لغتهم العربية التي هي لغة القرآن؛ كما جسدوا نظامًا اجتماعيًا متميزًا عما عند الجماعات الموجودة، يستمد قواعده من قيم الدين الجديد أي الإسلام. والعنصر الإضافي المهم أن سكان البلاد رحبوا بالمسلمين القادمين إليهم وتعاملوا معهم كمحررين وليس كغزاة أو مستعمرين. يتضح هذا من تعاونهم معهم ضد الفرس والبيزنطيين. وكان تعاون المسيحيين من أبناء العراق وبلاد الشام مع المسلمين ضد البيزنطيين الذين يدينون بالمسيحية أيضًا؛ علامة فارقة ذات دلالات حضارية عميقة سيكون لها الأثر الواضح في بلورة التكوين القومي الجديد لأمة عربية جديدة تضم الجميع.
لم يكن المسلمون الجدد غرباء عن سكان هذه البلاد المحررة.. فعدا عن المنبت المتقارب والأصول المتشابهة؛ كان سكان الجزيرة قبل الإسلام في حركة تبادل تجاري واقتصادي مزدهرة مع كل من اليمن في الجنوب ومع العراق وبلاد الشام في الشمال. وكانت القوافل التبادلية مزدهرة لا تنقطع.
كانت مكة قبل الإسلام مركزًا رياديًا للتجارة العالمية. وكانت تتم فيها قيادة حركة الاقتصاد العالمي وكثير من قواعد التبادل والتجارة العالمية. حتى إن لغتهم العربية لم تكن غريبة بالمعنى التام بل كانت متقاربة مع جميع اللغات التي يتكلم بها سكان البلاد المحررة. ولهذه الأسباب جميعًا كانت الودية هي منهج التعامل بين الجماعات المستقرة على الأرض قبل الإسلام بآلاف السنين وبين المسلمين – العرب الجدد القادمين إليهم محررين.
وهكذا انطلقت عملية تفاعل جدلي اجتماعية إنسانية بعد أن أزيلت كل معوقاتها السابقة وفتحت أمامها كل الأبواب بحرية تامة. وحيثما صار الجميع يعيشون في رعاية دولة واحدة وأزيلت كل الحواجز الداخلية وصار التنقل متاحًا واشترك الجميع في ثقافة واحدة ونظام اجتماعي للقيم والمعاملة واحد؛ تسارعت عملية انصهار الجميع في بوتقة اجتماعية واحدة. وما هي إلا خمسة عقود أو أزيد قليلًا حتى كان الانصهار شبه التام وكانت اللغة العربية هي لغة الجميع الواحدة الموحدة. وبدأت قسمات المجتمع الجديد في التبلور والظهور؛ مجتمعًا عربيًا حضاريًا موحدًا واحتفظت كل جماعة كان لها انتماؤها الديني قبل الإسلام؛ بذلك الانتماء دون أن يعترض أحد على حرية معتقداتها الدينية وممارسة شعائرها وطقوسها. وهكذا تكونت أمة جديدة هي الأمة العربية. فتميز تكوينها هذا بثلاثة عوامل أساسية:
الأول:
– كان الإسلام هو عامل التكوين الأساسي. فكانت تلك العلاقة المميزة بين العروبة والإسلام. وهي علاقة لم تنشأ أية علاقة تشبهها في أية أمة أخرى حتى تلك التي دخلت في دين الإسلام. فأصبحت مسلمة ولما يدخل الإسلام في تكوينها القومي. كما هي الحال في تركيا وإيران ودول آسيا الوسطى والشرقية.
الثاني:
– اشتراك كل الجماعات البشرية التي كانت – قبل الإسلام – تعيش على الأرض المحررة ؛ في التكوين القومي الجديد الذي أنتج الأمة العربية. جميع أولئك البشر تحرروا واندمجوا فانصهروا فشاركوا في ظهور التكوين الجديد فصاروا جزءً أساسيًا فاعلاً فيه.
فلم تكن أية جماعة غريبة عنه أو بعيدة عن المشاركة فيه أو مستثناة من عمليات التفاعل الجدلي الذي صهر الجميع في تكوين واحد. وفيما بين تلك الجماعات كان المسيحيون يشكلون نسبة عالية في سكان العراق وبلاد الشام. فأضافوا ما يحملون من قيم وأبعاد اجتماعية محلية إلى المجتمع الجديد فصاروا شريكًا في تكوينه؛ متميزين بمساهمة فعالة بوصفهم مسيحيين مؤمنين وبصفتهم من أبناء المنطقة والأرض منذ ما قبل الإسلام.
الثالث:
العروبة كركن تكويني مشترك:
كانت نتيجة التفاعل والانصهار بين الجماعات السابقة مع المسلمين الجدد أن تفوقت اللغة العربية على ما عداها من لغات محلية سابقة لسببين أساسيين إثنين:
١ – اللغة العربية هي لغة القرآن والذي أصبح كتاب غالبية أبناء البلاد وسكانها. وكانت لغة الدولة والمعاملات والتبادلات.
٢ – اللغة العربية كانت متفوقة بذاتها وبمقوماتها اللغوية وخلفيتها الثقافية الممتدة؛ على كل اللغات المحلية القائمة في البلاد. وما ساعد في الأمر أن أيًا من تلك اللغات المحلية السابقة لم ترتق لتكون واحدة مشتركة لأكثر من جماعة بشرية واحدة. فبقيت لغة لجماعة محددة وإن كان بعضها قد حافظ على لغته السابقة مع العربية الجديدة كما الحال مع السريانية والأمازيغية. رغم أنها محكية غير مكتوبة ولم يطرأ عليها أي تطور لاحقًا.
وهكذا وجد الجميع أنفسهم وقد تعربوا فأصبحوا عربًا ليس بأي معنى عرقي أو عنصري؛ لكنهم تعربوا بالمعنى الحضاري الثقافي القيمي الإنساني. وحيثما أصبح مصيرهم واحدًا فراحوا يصنعون تاريخهم المشترك الموحد. هذا على الرغم من تشابه المنبت الجذوري التاريخي وتقارب المنشأ العرقي لكل تلك الجماعات البشرية فيما بينها ومع المسلمين – العرب المحررين الجدد.
وهكذا تبلورت مكونات الأمة العربية الثلاثة:
١ – الإسلام كحضارة وثقافة وقيم أخلاقية. فضلاً عن أنه غدا دين الغالبية من أبناء الأمة الجديدة.
٢ – العروبة كهوية حضارية ثقافية اجتماعية. بعد أن شكلت لغة القرآن محور ومنطلق كل إنتاج فكري أو ثقافي أو نشاط إنساني اجتماعي.
٣ – انصهار الجماعات البشرية السابقة كلها – بما استمر معها من قسمات حضارية وجذور تاريخية – مع الجماعة الآتية حاملة الرسالة الدينية الجديدة؛ وذات صلة القربى التاريخية معهم. وكان دور المسيحيين والمسيحية العربية الأبرز والأوضح فيما بين هذه الجماعات كلها. لا سيما في المشرق العربي. وهكذا يتضح بكل الموضوعية الممكنة أنه لا وجود لما يسمى “أقليات” في مجتمع الأمة العربية. فجميع الأقوام السابقين على الإسلام هم من أبناء البلاد الأصليين. من الأمازيغ في المغرب إلى المصريين القبط المسيحيين والفراعنة إلى كل بقايا الفينيقيين والبابليين والكلدانيين والآشوريين والسريان وسواهم. جميعهم هم أبناء البلاد الأصليين، ثم انصهروا مع أقربائهم المسلمين – العرب الجدد فكونوا مجتمعًا موحدًا وأمة واحدة. وتعربوا فأصبحوا جميعهم عربًا. وفيما بعد شاركوا جميعًا في بناء الحضارة العربية – الإسلامية العظيمة. حتى وهم يهود أو مسيحيون او سريان او غيرهم. فقد شاركوا في بنائها. حتى أبناء البلاد الجديدة المحررة خارج الإطار العربي شاركوا في بنائها وتعرب من تعرب منهم وبقي أغلبهم على هويتهم القومية وهم مسلمون. خلاصة القول: لا وجود لأقليات في الأرض العربية. فمن أين أتت هذه التسمية وما معنى ” الاقليات “؟؟