بسام مقداد
ليس من الواضح لماذا اختار مركز كارنيغي موسكو هذا التوقيت بالذات، ليعيد نشر ملف خطط الكرملين لإصلاح جيش النظام السوري وأجهزة مخابراته. فالملف، الذي نشره المركز في 19 من الجاري، كان مركز كارنيغي بيروت قد نشره في 26 آذار/مارس المنصرم، وشارك في وضعه، إلى جانب آخرين، ثلاثة من المتابعين الروس لشؤون الشرق الأوسط وسوريا، وأشرف على وضعه يزيد صايغ، الذي وصفه مركز موسكو بالخبير المميز في شؤون القوات المسلحة وحقل الأمن في البلدان العربية. من الصعب القول بأن مركز كارنيغي الأميركي قد اختار توقيت إعادة نشر الملف بما يتفق مع أجندة الكرملين الراهنة حيال الملف السوري، والتي تركز، من جانب، على انتقاد سلوك النظام السوري المعرقل لشروط العملية السلمية في تسوية الصراع السوري، وتشدد، من جانب آخر، على متانة العلاقات بين موسكو ودمشق.
لكن، ومهما يكن من أمر التوقيت، إلا أن الملف أثار اهتمام وكالة نوفوستي الرسمية، التي أعادت نشر مقالة الصايغ الرئيسة في الملف بعنوان “الإعتبارات السياسية السورية تغلب على الإصلاحات العسكرية الروسية”. يشير الكاتب في سياق مقالته إلى أن الجيش العربي السوري لم يتمكن، حتى الآن، من تذليل الكثير من عيوبه المزمنة، وروسيا تحاول رفع قدراته القتالية، وتعمل على تحسين منظومة القيادة والتحكم، إلا أن سياسة نظام الأسد تقوض هذه الجهود. ويسبب هذا الأمر صداعاً حقيقياً للقيادة الروسية، التي لم تتمكن خلال خمس سنوات من إعادة تشكيل الجيش السوري في قوة عسكرية كفؤة ومستقلة، مما يمكن روسيا من سحب قواتها من سوريا. النظام السوري يعتمد أكثر فأكثر على المجندين العلويين الجدد وعسكرة الطائفة العلوية ككل، إلا أن هؤلاء يفتقدون روح المبادرة، وكفاءتهم القتالية منخفضة للغاية، برأي الكاتب. ومع ذلك لم ينهار الجيش السوري، ويعتبر بأنه حافظ على تماسكه بفضل العلاقات غير الرسمية، التي تخترقه من أعلى إلى اسفل، وبفضل التراتبية الرسمية الموازية، التي يعمل فيها الضباط الروس. ولهذا بالذات يقاوم النظام السوري في كل مرة تقترح فيها روسيا الانتقال من الكلام عن “النصر القادم” في الحرب الأهلية إلى مناقشة خطط إعادة إعمار البلاد بعد الحرب، وذلك لأن السلطة تخشى أن يصبح الجيش خطراً عليها بعد نهاية الصراع.
ترتكز المقاربة الروسية لتحديث الجيش السوري وإعادة هيكلته، حسب الكاتب، إلى تجربة إصلاح القوات المسلحة الروسية في العام 2008، والتي تقف وراءها الرؤيا العسكرية لرئيس الأركان الروسية فاليري غيراسيموف. لكن الجيش السوري لا يتمكن من تنفيذ رؤيا غيراسيموف، لأن نظام الأسد لا يوافق على الركيزة الأساسية لهذه الرؤيا، التي تقول بأنه، من أجل إحراز النجاحات في ساحات المعارك، ينبغي أن يكون للجيش السوري هيكلية مؤسساتية واضحة، وألا يشارك في السياسة، مما يعني رفض الطائفية في الجيش. والخطر الرئيسي على استمرار النظام، برأي دمشق ، يحمل طابعاً داخلياً، ولذا تستهدف تدابير السلطة داخل الجيش والأجهزة الأمنية إلى تعزيز إشراف الأسد الشخصي على البنية القيادية والإدارية للجيش.
وبعد أن يستفيض الكاتب في الحديث عما يعتري أداء الجيش السوري من “عيوب صارخة”، وما تتطلبه من إصلاحات لتجاوزها، يقول بأنه ليس لدى روسيا ما يكفي من نفوذ لإجراء مثل هذه الإصلاحات، سيما وأنها تصطدم في جنوب وشرق سوريا بمقاومة الفصائل الموالية لإيران. ولهذا روسيا على استعداد لتقديم تنازلات للنظام، إذ أنها غضت الطرف عن العمليات التجارية للفرقة الرابعة المدرعة بقيادة ماهر الأسد، التي تجري بدعم من الرئيس عبر مرفأي طرطوس واللاذقية، اللذين تشرف عليهما روسيا. ويقول الكاتب، بأن نجاح إصلاح القوات المسلحة السورية يتطلب توظيفات سياسية ومادية، تفوق ما يمكن لروسيا أن تقدم عليه. وبدلاً من ذلك، ستتبع روسيا نهجاً واقعياً وانتهازياً في هذا المجال كما فعلت على الدوام في المجال الدبلوماسي: أي اقتراح الحلول التي تعتبرها معقولة وفعالة من حيث التكلفة، ثم القبول بما هو أقل من ذلك بكثير حين تغلب الحسابات السياسية لنظام الأسد على التفضيلات والمقترحات الروسية.
الكتاب الروس كانوا أكثر تركيزاً على العامل الإيراني في مجابهة محاولات الكرملين وضع يده على الجيش السوري، من خلال عمليات إصلاحه، وإن كانوا يتفقون مع الصايغ حول تصدي النظام السوري لهذه المحاولات. مستشار المجلس الروسي للعلاقات الخارجية الكسي خلابنيكوف في مقالته حول الإصلاحات هذه “روسيا والإصلاح العسكري السوري: التحديات والفرص”، يقول في مطلع نصه، بأن بوسع روسيا، وهي تطلق عملية الإصلاح العسكري في سوريا، أن تحل مهمتين مترابطتين: القضاء على ضعف المؤسسات الرسمية، وإضعاف النفوذ الإيراني المفرط في حضوره. ويرى أنه لا بد لروسيا من أجل ذلك من إطلاق نظام تعليم عسكري، وإعداد وحدات عسكرية سريعة الحركة، وتنظيم رصد طويل الأمد لعمليات التسوية السياسية.
يقول خلابنيكوف، أن الوجود المتعاظم لإيران، التي تنشئ وتمول ميليشيات موالية للنظام، يزيد أكثر من تعقيدات الوضع. لقد ساعدت هذه التشكيلات النظام على الصمود، إلا أنها جعلته في الوقت عينه مرتبطاً بشدة بإيران، مما مكنها من توسيع وجودها العسكري في سوريا. ومع أن الفصائل الموالية لإيران قد رسخت مواقعها في سوريا وفي قواتها المسلحة، إلا أنه سيتعين على دمشق إنشاء جيش مستقل ومكتف بذاته ، لكي تصبح أقل اعتماداً على طهران، وهذا ما تتفهمه موسكو جيداً. خلال عشر سنوات من الصراع السوري، كانت القوات الموالية لإيران غالباً ما تعمل بصورة موازية للمؤسسات الرسمية السورية، بل وضد مصالحها. أما موسكو، فهي على العكس برأيه، تعمل على إحياء تلك المؤسسات وتعزيزها، معتبرة إياها الشريك الأكثر ثقة، وتشكل ضمانة للاستقرار. هذا الفارق في المقاربتين قد يفضي إلى احتكاكات جدية بين روسيا وإيران، مما يعرقل أي تغييرات بناءة في سوريا.
ويخلص الكاتب إلى القول، بأن روسيا إذ تتصدى لمهمة إعادة بناء القوات المسلحة السورية، تشدد من ارتباطها بسوريا، مما يعني أنها لا تستطيع أن تسمح لنفسها بالفشل، لأن ذلك سيظهرها عاجزة عن التعاون مع حلفائها. ومما يزيد من صعوبة وضع روسيا، وهي تتصدى للإصلاح العسكري في سوريا، إمكانية بروز مخاطر إضافية على تعاونها مع إيران في سوريا، بسبب اختلاف مقاربتهما للعلاقات مع المؤسسات العسكرية السورية، وبسبب دعم إيران لموقف الأسد “غير المرن” من عملية الإصلاح هذه.
الخبير المستقل في المجلس الروسي المذكور، وكاتب العمود في موقع Al-Monitor كيريل سيمونوف، تصدى للحديث عن “دور روسيا في إصلاح أجهزة المخابرات السورية”، لأن ذلك يعزز نفوذ روسيا في سوريا ويضعف في الوقت عينه من نفوذ إيران، برأيه. ويعترف سيمونوف أن راحة العسكريين الروس، وكذلك شركات روسيا الإقتصادية ومواطنيها، ترتبط مباشرة “بنوعية” أجهزة المخابرات السورية المرتبطة مباشرة بالقيادة السورية، و يتعلق قرار التعيينات بالمناصب العليا فيها ب”الحلقة الضيقة من عائلة الأسد”. ويقول الكاتب، أن طهران تؤثر في عملية التعيينات هذه “لعلاقات الثقة” مع دمشق، وبأن تدخل روسيا في هذا “المجال الحساس” بالنسبة لنظام بشار الأسد يتسم بحساسية أكبر.
يقترح الكاتب ثلاث سيناريوهات لإصلاح الأجهزة السورية هذه، ويقر بأن كلاً منها “متخيل” إلى حد ما، وذلك لنقص المعلومات المتوافرة. وبعد أن يناقش بالتفصيل السيناريوهات الثلاثة: دمج الأجهزة في وزارة الداخلية، تحسين نشاط الأجهزة، إنشاء وزارة جديدة للمخابرات، يخلص سيمونوف للقول، بأن روسيا التي تبقى الشريك الأساسي لسوريا، عليها أن تواصل تقديم العون لهذه الأجهزة، عن طريق إعداد الكادرات في روسيا، وتدريب فصائل الرد السريع المناهضة للإرهاب. وعلى السياسيين أن يدرسوا السيناريوهات الثلاثة، من أجل بلوغ تغيرات ملموسة على طريق تعزيز تماسك الدولة السورية.
تظهر النصوص الثلاثة، التي استعرضها مركز كارنيغي موسكو، الصعوبات التي تعترض انخراط الكرملين في المقتلة السورية، التي يتواصل تناسل حروبها وصراعاتها، وتقوض هذه النصوص ما تشيعه بروباغندا الكرملين عن تصوير نفسه كلي القدرة في سوريا. ولعل ما ذكرته صحيفة القوميين الروس “sp” في تعليق لها على “قانون قيصر” يبين الحجم الحقيقي لنفوذ الكرملين في سوريا، إذ قالت “العقوبات الأميركية على الأسد تمحو كل ما قامت به روسيا في سوريا”.
المصدر: المدن