حسن فحص
بغض النظر عن الرغبة والميل الشديدين لدى الرئيس الإيراني حسن روحاني وفريقه الدبلوماسي بقيادة وزير الخارجية محمد جواد ظريف بفتح كوة في جدار التوتر المتصاعد مع واشنطن، وفتح قنوات حوار تخفف من منسوب الضغط الذي تتعرض له الحكومة الإيرانية داخلياً نتيجة تراكمات متشعبة أبرزها الأزمة الاقتصادية نتيجة الحصار المشدد والعقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب على النظام، إلى جانب فشل تلك الحكومة في إدارة ملف نتائج العقوبات التي تفاقمت بسبب استغلال التيار المحافظ لهذه الأزمات في معركته على الرغم من خطورتها، فتحولت سلاحاً ذو حدين، من أجل إضعاف خصومه من الإصلاحيين والمعتدلين وإخراجهم من دائرة القرار ومراكز السلطة.
تصلّب المتشددين
إلا أن الانهيارات التي ضربت قطاع العملة وتدني سعر صرف التومان الإيراني أمام العملات الأجنبية خصوصاً الدولار الذي تجاوزت قيمته الـ20 ألفاً من الأوراق النقدية الإيرانية، ما زال التيار المحافظ بكل أجنحته، باستثناء المحسوبين على الرئيس السابق محمود أحمدي نجاد الذين يصفهم الجناح التقليدي والأصوليون المتشددون بـ “المنحرفين”، يرفضون الحوار مع واشنطن انطلاقاً من قراءة أو رؤية خاصة بهم تنطلق من اعتبار أن ترمب وإدارته بحاجة إلى هذا الحوار مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وأن المرحلة لا تفرض على طهران تقديم أي تنازلات لهذه الإدارة التي تسعى إلى توظيف ذلك للخروج من أزماتها الدولية والداخلية، بخاصة أنه، حسب اعتقادها، ترمب ليس سوى “مقامر” خسر كل ما تبقى له من اعتبار وحيثية وماء وجه على طاولة القمار، وأن التفاوض مع دولة دخلت مرحلة الأفول وبدأت تغرق تدريجاً مثل “سفينة تايتانيك” لن يحقق لإيران أي مكسب أو إنجاز، لأن الإصرار الأميركي من ترمب وإدارته وتكرار الدعوة إلى الحوار يشكلان مؤشراً في هذه القراءة بأن هذا الحوار هو حاجة أميركية أكثر منه حاجة إيرانية، وأن إيران لا يجب أن تذهب في هذه المرحلة إلى تقديم خدمات مجانية، سيلجأ ترمب إلى توظيفها في معركته الانتخابية وترميم ما أصاب صورته وما ظهر عليه من عجز وضعف.
ارتفاع منسوب التشدد
ومنذ استعادة التيار المحافظ سيطرته على السلطة التشريعية، ارتفع منسوب الخطاب المتشدد في ما يتعلق بالجهود الداخلية والدولية من أجل فتح حوار مباشر بين طهران وواشنطن. ومنذ الخطاب الأول له بعد انتخابه رئيساً للبرلمان، وفي كل المواقف التالية التي صدرت عن الجنرال السابق محمد باقر قاليباف، أكد كلامه الواضح والمباشر رفض أي تفاوض مع الإدارة الأميركية، بما يوحي أن مهمة الإعلان عن موقف النظام في ما يخص هذا المسار لم تعد محصورة بموقف المرشد الأعلى علي خامنئي أو المؤسسة العسكرية – حرس الثورة تحديداً- وأنه بات بإمكان القيادة الركون إلى دور البرلمان في هذا الإطار على اعتبار أن السلطة التشريعية بتركيبتها الجديدة أكثر تعبيراً والتصاقاً بتوجهات النظام. وهذا لا يعني أن رئيس البرلمان السابق المحافظ علي لاريجاني لم يكن منسجماً مع توجهات القيادة، إلا أن ما يؤخذ عليه أنه كان متسامحاً وأكثر ميلاً إلى التعاون الإيجابي مع الحكومة ودعم توجهاتها الدبلوماسية والإدارية والاقتصادية، في حين أن الرئيس الجديد والكتلة التي وصلت معه إلى البرلمان أكثر تشدداً وعلى استعداد لممارسة أقسى أنواع المحاسبة والمحاصرة لروحاني وحكومته في مختلف المجالات والمستويات، وليس فقط في موضوع الحوار مع واشنطن، إنما أيضاً في الرهانات التي ما زال روحاني يعقدها على دور أوروبي في كسر حلقة العقوبات الأميركية ضد إيران والنظام. ولم يتردد البرلمان في توجيه رسائل مباشرة وواضحة إلى روحاني بتضييق الخناق على حكومته في الأشهر المتبقية من عمرها وصولاً إلى إمكانية استجوابه. ولعل الرسالة التي وجهها رؤساء اللجان النيابية لروحاني تشكل مؤشراً على جدية هذه التوجهات المحافظة في الأشهر المقبلة التي يُفترض أن تؤسس وتمهد الأرضية للانتخابات الرئاسية المقبلة.
تأطير المسوغات
وإذا كان موقف البرلمان ورئيسه في موضوع الحوار مع واشنطن يصدر عن أبعاد داخلية وآليات الصراع على السلطة وإعادة الحياة الثورية للعمل النيابي، فإن مؤسسة النظام العسكرية في حرس الثورة تتولى مهمة تأطير المسوغات التي تدفع إلى اتخاذ هذا الموقف المتشدد بناءً على قراءة التطورات الداخلية والاقليمية والدولية وحتى الأميركية الداخلية. وانطلاقاً من هذه القراءة لا ترى مسوغاً لتقديم أي تنازل لإدارة ترمب في هذه المرحلة التي تختلف عن سابقاتها عندما كانت الإدارات الأميركية تمارس الضغوط على إيران وتفرض العقوبات وتمارس سياسة الترهيب والترغيب لجرها إلى طاولة التفاوض.
لذلك ترى هذه المؤسسة أن إصرار ترمب على الدعوة إلى الحوار يأتي من شعوره بحراجة موقفه الانتخابي وأن إمكانية وصول غريمه الديقراطي جو بايدن إلى الرئاسة سيفرط بكل الإجراءات التي اتخذها خلال السنوات الثلاث الماضية ضد إيران.
ولا تخفي دوائر هذه المؤسسة الرهانات التي تدفعها إلى اعتماد هذه الرؤية، إن كان في الرهان على الإرباك الذي تسببت به الأحداث التي رافقت أزمة مقتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد وعودة الحديث عن التمييز العنصري ومواقف ترمب من هذه الأزمة التي أثرت على شعبيته، وتداعيات أزمة كورونا وانكشاف إدارة ترمب الصحية والسياسية والإدارية في معالجة تداعياتها وما تسببت به من أزمات صحية وحياتية. كما ساهمت الآثار الاقتصادية وارتفاع نسبة البطالة في تعقيد المشهد أمام ترمب ووجهت ضربة موجعة إلى حملته الانتخابية.
غياب الإنجازات
أما على الصعيد الدولي، فان هذه الدوائر تعتقد أن ترمب وإدارته لم يستطيعا تحقيق أي إنجاز مهم على صعيد العلاقات الدولية يمكن أن يُسجَل في خانة الإنجازات الرئاسية، فالحوار مع كوريا الشمالية أُصيب بنكسة قاسية رفعت منسوب عدم الثقة الكورية بالرئيس وواشنطن، فضلاً عن تراجع الثقة بين ترمب والعواصم الأوروبية إلى جانب موسكو وبكين نتيجة المواقف والسياسات التي اعتمدها في التعامل معهم.
وبناءً على هذه الرؤية، ترى هذه الدوائر المؤثرة في القرار الإيراني، أن عودة ترمب إلى الحديث عن الحوار مع إيران يصب في إطار مساعيه لتحقيق إنجاز على الساحة الدولية، في حين أن طهران ترى أن مثل هذا الحوار لن يكون مثمراً، وأنها – أي المؤسسة العسكرية – كانت مصيبة عندما اتخذت موقفاً متحفظاً من الاتفاق النووي انطلاقاً من قناعتها بعدم إمكانية الوثوق بالإدارة الأميركية والتي ترجمها قرار الانسحاب من الاتفاق النووي، وأن إجماع المسؤولين الإيرانيين على عدم جدوى التفاوض مع واشنطن يسقط رهانات ترمب الانتخابية، وأن المرشد الأعلى متمسك بمبدأ سياسة “الصبر” ورفض التفاوض. وتبدو المؤسسة العسكرية الإيرانية على استعداد لدفع الأثمان جراء موقفها، في حين أن ترمب لا يتردد في التأكيد على “الثمن الكبير والمخيف الذي ستدفعه طهران من أجل التوصل إلى اتفاق” بعد عودته إلى الرئاسة.
إذا ما كان المرشد يعتقد بأن أميركا تسير نحو الأفول بناءً على السنن التاريخية أو “الإلهية” بحسب تعبيره، والمؤسسة العسكرية تشبّه الولايات المتحدة بسفينة تايتانيك تغرق تدريجاً، فإنه في المقابل، ما لم يتم إعادة النظر بتراكمات تاريخية عدة داخلياً وخارجياً في إيران، فإن سفينة النظام الإيراني لن تكون أيضاً في منأى عن السنن التاريخية والإلهية، وقد تواجه الأسباب نفسها وتنحو باتجاه الأفول والغرق.
المصدر: اندبندنت عربية