أحمد طرقجي
“لقد اصيب أكثر من 80 طفل سوري بالشلل الدائم بسبب التلاعب بثغرات أنظمة الأمم المتحدة، فبدل أن يتم العمل على تطوير الآليات أو على الاقل الحفاظ على ماهو موجود حالياً تستمر المحاولات لزج الحاجات الإنسانية للمواطنين السوريين في المطاحنات السياسية الدولية”.
كان هذا المقطع جزءاً من مداخلتي قبل أسابيع أمام سفراء بعض البعثات الدبلوماسية بما يخص التغيرات المحتملة على القانون الأممي 2165 (2504) لإيصال المساعدات الإنسانية عبر الحدود في سوريا.
مع أواخر عام 2012 لم تعد مكاتب المنظمة الدولية العاملة في دمشق قادرة على تمرير لقاحات الأطفال أو مواد لمعالجة مياه الشرب للمناطق الخارجة عن سيطرة النظام. ولم تمضِ أشهر حتى بدأ أطباء حلب ولاحقاً أطباء دير الزور والشمال الشرقي تواصلهم مع منظمة الصحة العالمية للتبليغ عن حالات أصيب بها الأطفال بالشلل نتيجة فيروس شلل الأطفال.
بعد جمع العينات، لم يستطِع الأطباء أو حتى منظمة الصحة العالمية إيصال هذه العينات المخبرية للفحص في دمشق. بسبب القوانين الدولية، لم تكن آليات الأمم المتحدة حينها تسمح لمنظمة الصحة أو أي آلية أخرى بإجراء هذه الفحوص في الدول المجاورة كتركيا أو العراق. بالنتيجة أصيب أكثر من 80 طفلاً بالشلل الدائم وظهرت جائحة فيروس شلل الأطفال في شرق المتوسط. كانت هذه الجائحة وحجب المساعدات هي أحد دوافع قرار مجلس الأمن لخلق آليات للعمل الإنساني عبر الحدود عام 2014.
لم يتغير الكثير بعد هذه السنوات. فمع ظهور جائحة الكورونا عالميا ورغم وجود آليات التنسيق الإنساني عبر خطوط النزاع بين الادارة الذاتية ودمشق، إلا أن دمشق لم تبلغ السلطات الصحية في القامشلي عن نتائج تحليل أول حالة كورونا في الشمال الشرقي إلا بعد أسبوعين من وفاة المريض، ولم تعتبر منظمة الصحة العالمية نفسها معنية بإبلاغ المشفى بنتيجة التحاليل في الوقت المناسب.
للأسف، لم يكن الجنوب السوري أكثر حظاً من الشمال. فقد أشار القرار الأممي عام 2014 لمعاناة أكثر من 400 ألف سوري محاصرين بشكل كامل من دون أي آلية لتمرير المعونات الإنسانية لهم. تجلت أثار هذا الحصار وضعف الآليات الدولية بوضوح مع بداية عام 2016 في ريف دمشق وبلدة مضايا على وجه الخصوص. فقد مات جوعاً أكثر من ستين دمشقياً، بمن فيهم علا بنت الاثني عشر ربيعاً، تحت أنظار العالم وأعضاء مجلس الأمن بينما لا تبعد مخازن الأمم المتحدة المليئة بالمساعدات أكثر من عشرين كيلومتراً عن مضايا.
وحتى عندما أرادت الهيئات الدولية إدخال المواد الغذائية عبر مكاتب دمشق الى حلب المحاصرة عام 2016 ، قُصفت قافلة الصليب الأحمر الدولي تحت سمع وأبصار العالم، ومازلنا حتى اليوم بانتظار نتائج التحقيق الدولي. كما أُجهضت محاولات الإخلاء الطبي لمرضى القلب والكلى والسرطان والأطفال المرضى عبر خطوط النزاع وأُفرغت من محتواها الإنساني. لقد تحوّلت مبادرة إنسانية متمثلة بمحاولة إخراج بعض المرضى المصابين بحالات حرجة إلى دمشق، إلى مقايضة بين الأطراف لدرجة أعلن فيها نائب المبعوث الأممي لسوريا أنه ليس مقبولاً ما حصل من استخدام حاجة الأطفال للعلاج كورقة مساومة بين الأطراف المتحاربة. توفي 17 مريضاً من أبناء دمشق وريفها، بينهم أطفال، وهم بانتظار الإخلاء بغرض العلاج.
منذ أشهر، دفعت روسيا والصين باتجاه إيقاف الإغاثة الأممية عن طريق معبر “اليعربية” شمال شرق سوريا. لم تمضِ أسابيع على تحويل إدارة العمليات إلى مكتب دمشق، حتى شهدت المشافي والجمعيات إعاقة لتسيير الموارد نحو الشمال الشرقي وانخفاضاً يزيد عن 50 في المئة مقارنة مع الإغاثة عبر الحدود، رغم توسط روسيا للحوار بين الإدارة الذاتية ودمشق. حتى أن منظمة الصحة العالمية اقترحت إعادة فتح معبر اليعربية للمساعدة على الاستجابة لفيروس كورونا، لكنها عادت بعد أيام وتراجعت عن هذا الطلب لأسباب مجهولة.
عندما تأسست الأمم المتحدة كمنصة لدعم السلم الدولي تم وضع ميثاقها و نصوص عملها بما يحفظ استقلال الدول وسيادتها.
كما صُممت قوانينها لتساعد في حالات الصراع بين الدول أو في حالات الكوارث الطبيعية حيث يجب أن تطلب الدول رسمياً المعونة الدولية وأن تحدد للمنظمات الدولية مجال عملهم. لكن تغير طبيعة الحروب في العقود الماضية وتحول الحكومات إلى طرف في الحرب على جزء من شعوبها أظهر بوضوح ضعف القوانين الدولية وعدم قدرتها على تجاوز هذه الثغرة التي أصبحت أحد مداخل الفيتو الروسي على المعابر الإنسانية في سوريا.
كما أن الفيتو يفترض عدم وجود فرق اذا تمت العمليات الأممية عبر معبر واحد أو معبرين في الشمال الغربي، وهو افتراض غير واقعي. فتعداد سكان الشمال الغربي في سوريا قريب من عدد سكان دولة بحجم الكويت مثلاً، ومن غير المعقول توقع أن يكون معبر حدودي واحد في ظروف الحرب كافياً لإدخال احتياجات 4 ملايين سوري.
لكن بعيداً عن مناكفات السياسة الدولية وزيفها، فإن أعمال الإغاثة الوطنية السورية سبقت إصدار القرار الأممي بثلاث سنوات، ونمت رغم التحديات الدولية، ومن المؤكد أنها ستبقى ملتزمة بالمواطن السوري حتى لو أُلغي قرار مجلس الأمن أو استمرت محاولات تقويضه. لكن من المؤلم أنه بينما يسابق السوريون الزمن للحصول على قوت يومهم وعلى ما يستر أجساد أولادهم، يظهر واضحاً فشل القوانين الدولية في حمايتهم أو على الأقل في حماية رغيفهم.
المصدر: المدن