عبد الحفيظ الحافظ
ما كدتُ أستلقي في فراشي بعد يومٍ مرهق، حتى بدأ صرّارُ الليل عزفَه المنفرد خلف باب الشرفة في الطابق الثامن. سلَّمتُ نفسي لملكِ النوم، وحاولتُ -جاهدًا- تجاهل ذاك الضيف الذي اتخذ من الشرفة مأوًى له، لكن ضيفي الثقيل أصرَّ على متابعة عزفه، فامتنعت عيناي عن الإغلاق، وجفاني النوم، وبعد تقلبٍ في الفراش منتظرًا تعبه، كان لا بدَّ من إسكاته. خرجت لاهثًا إلى الشرفة، وأضأتُ النور، بحثت عنه، فلمْ أجدْه، وقد لاذَ بالصمت، فعدتُ حانقًا خائبًا من معركة كنتُ أمنّي النفس بالفوز بها. لكنني ما كدتُ أستلقي على السرير، حتى عاد الجُدجُدُ إلى عزفِه الحادّ متحديًا شامتًا بهزيمتي، فعدتُ بدوري إلى ساحة المعركة منقبًا في طياتها كلها، بعد توقفه عن العزف لم أعثر عليه. بعد كرٍ وفرٍ، لاحظتُ سكوته عندما أخطو باتجاه الشرفة، فأخذتُ بالمشي قرب السرير، فكان يتوقف لحظةً، يتابع بعدئذ مناشدة أنثاه تلبية دعوته للاجتماع بصريره الحادّ الذي يمزقُ سكونَ الليل. بعد مدة أدرك العاشقُ اللعبة، فلم يعد يأبه لسيري في الغرفة، فأخذت أضرب أرض الغرفة؛ مقلدًا سيري باتجاه الباب، فكان يقف ممعنًا بخططي، لكنه توصل بعد محاولتين إلى خديعة الحرب التي اعتمدتها، فكان يعود إلى عزفه بحماسة أشدّ، كأن عشيقته سمعت دعوته، وهي في طريقها إلى أحضانه. مضى الهزيع الأول من الليل، وأنا أسعى بين السرير والشرفة، وصرّارُ الليل بين عزفٍ وتوقفٍ؛ منخرطين في مباراة بلا حكم ملعب، وبلا حكمَيْ تماس، وقد أصرَّ كل منا على الفوز بها؛ حتى لو تحقق الفوز بضربات جزاء. مع ولوج الليل نصفَه الثاني أضاءَ السماءَ ضوءٌ، تبعتْه انفجارات، أشعلت المدينة بطلقاتٍ من صنوف مختلفات من الأسلحة. فصمت الجُدجُدُ.
المصدر: الأسبوع الأدبي