مايكل يونغ
فيما تستعد المحكمة للنطق بالحكم في قضية اغتيال رفيق الحريري، ثمة أسئلة كثيرة ينبغي على الأمم المتحدة الإجابة عليها.
أعلنت المحكمة الخاصة بلبنان عن موعد النطق بالحكم في 7 آب/أغسطس المقبل، والذي يُفترَض أن يشكّل لحظةً درامية قوية. ولكن القرار الذي يصدر بعد أكثر من 15 عاماً على اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، أي الجريمة التي يُفترَض أن تلفظ المحكمة حكمها للبت فيها، سوف يبدو مجرد حاشية لكتابٍ نفدت طبعته.
من ذلك أنه طلب تكليف قوى الأمن الداخلي بتحليل بيانات الاتصالات الخاصة بمنفّذي عملية الاغتيال، علماً بأن هذا الجانب هو الأكثر حساسية في التحقيق، والغريب أن طلبه جاء بعد أن عزل فريقه عن قوى الأمن الداخلي خوفاً من التسريبات.
ليس واضحاً لماذا أقدم براميرتس على هذه الخطوة. التفسير المحتمل هو انطباعه ربما بأن الأمم المتحدة لاتريد كشف ملابسات الجريمة كاملةً، ولاسيما إذا ثبت تورّط حزب الله فيها. وجاء تعيينه لاحقاً مدّعياً عاماً للمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة ليغذّي التكهنات بأن الأمم المتحدة كافأته على تقاعسه في بيروت. ربما استشعر براميرتس بأن المنظمة الدولية متخوّفة من أن يؤدي الكشف عن قتلة الحريري بالاسم إلى اندلاع نزاع مذهبي، على خلفية اتهام حزب الله الشيعي بقتل شخصية سنّية مرموقة.
إن كانت ثمة شكوك بشأن حقيقة المخاطر، فقد حرص الرئيس السوري بشار الأسد على تبديدها في 7 نيسان/أبريل 2007، عندما اجتمع في دمشق بأمين عام الأمم المتحدة آنذاك بان كي مون. فما ورد على لسان الأسد، بحسب ماسُرِّب إلى صحيفة “لوموند” الفرنسية، لم يُظهر فحسب أن الرئيس السوري يعرف مَن هي الجهة التي تقف خلف الجريمة، بل انطوى أيضاً على تهديد في وقتٍ برز فيه كلامٌ عن إنشاء محكمة لمقاضاة المشتبه بهم بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
فقد قال الأسد على مسامع بان كي مون: “الانقسامات والنزعات الطائفية متجذّرة بعمق في لبنان منذ أكثر من 300 عام”، مضيفاً: “المجتمع اللبناني شديد الهشاشة. السنوات الأكثر أماناً [التي عرفتها البلاد] كانت خلال وجود القوات السورية هناك. فقد كان لبنان مستقراً بين عامَي 1976 و2005، لكنه بات يعاني الآن من عدم استقرار شديد”. ولذلك، من شأن إنشاء محكمة بموجب الفصل السابع أن يفاقم زعزعة الاستقرار، وفقاً للأسد الذي ما لبث أن أخذ الحديث في منحى مباغت ومقلق قائلاً إن المحكمة “قد تتسبب بسهولة باندلاع نزاعٍ يتحوّل ربما إلى حرب أهلية، ويولّد انقسامات بين السنّة والشيعة من البحر المتوسط إلى بحر قزوين”.
لقد أقرّ الأسد ضمناً بأن حزب الله مسؤول عن اغتيال الحريري، وبأن التداعيات الخطرة التي يمكن أن تترتب عن هذا الأمر قد تمتدّ بعيداً جداً متخطّيةً الحدود اللبنانية. ويبدو أن مسؤولاً في الأمم المتحدة برفقة بان كي مون، أو ربما بان كي مون نفسه، أقدم على تسريب كلام الأسد. ويمكن أن نستشفّ أن الرئيس السوري طرح مسألةً كان على يقين من أنها ستثير قلق الأمم المتحدة.
بحلول ذلك الوقت، ظهرت شكوك بأن منظمة الأمم المتحدة – خلافاً للدول الأعضاء الأساسية في مجلس الأمن مثل فرنسا والولايات المتحدة – غير متحمّسة لإجراء تحقيق معمّق في مقتل الحريري. سألتُ القاضي الألماني ديتليف ميليس الذي تولّى رئاسة لجنة التحقيق الدولية قبل براميرتس في مقابلة أجريتها معه العام 2008، إذا كان كوفي أنان الذي شغل منصب أمين عام للأمم المتحدة خلال مرحلة التحقيقات التي أجراها ميليس في النصف الثاني من العام 2005، قد تدخّل في عمله. فكان جواب ميليس النفي، لكنه أشار أيضاً إلى أن “أنان قال لي بوضوح إنه لايريد بؤرة اضطرابات جديدة. احترمتُ ذلك لكنه احترم أيضاً وجهة نظري. تقليدياً، ثمة تشنجات بين السياسة والقضاء، وقد تقبّلتُ أن أنان لايريد مشاكل إضافية بسبب قضية الحريري”.
لكن عندما كثّف ميليس عمله في خريف 2005، بل سعى إلى مقابلة الأسد نفسه، أعلمته الأمم المتحدة بأنها لم تعد قادرة على ضمان أمنه في لبنان، وبأن عليه متابعة تحقيقاته من خارج البلاد بعيداً عن فريق عمله. يقول ميليس إن المندوب الألماني لدى الأمم المتحدة ردّ بأن ميليس لايستطيع القبول بمثل هذا الشرط، وبحلول كانون الأول/ديسمبر، عاد القاضي إلى بلاده.
لم يعمد ميليس مطلقاً إلى الربط علناً بين قرار الأمم المتحدة بنقله من لبنان ووجود رغبةٍ في التضييق على تحقيقاته. ولكن يصعب أن نتصوّر أن رجلاً بخبرته لم يلمس إشارة بأن الأمم المتحدة غير مرتاحة لإجراء تحقيق معمّق للغاية. ولم تعلّل الأمم المتحدة لماذا أبقت براميرتس في لبنان بعدما كانت قد سعت إلى نقل ميليس إلى خارج البلاد. ما الذي تضمّنته تحقيقات براميرتس ليطمئن الأمم المتحدة إلى سلامته، فيما طُلب من ميليس مغادرة لبنان؟
في المقابلة نفسها التي أجريتها مع ميليس في كانون الثاني/يناير 2008، وجّه هذا الأخير انتقادات لاذعة لجهود براميرتس. فقد قال صراحةً: “لم أرَ كلمة واحدة في تقاريره الصادرة خلال العامَين المنصرمين تؤكّد أنه أحرز تقدّماً. عندما غادرت، كنا جاهزين لتسمية المشتبه بهم، لكن يبدو أن [التحقيق] لم يتقدّم بعد ذلك”. وتيرة التحقيقات البطيئة أكّدها لي أشخاصٌ مطّلعون عن كثب على ما كان يجري داخل فريق براميرتس.
تسلّم براميرتس رئاسة لجنة التحقيق الدولية في لحظة محورية من التحقيقات في قضية الحريري، حين كان يتوجّب توسيع نطاق التقصّي الأولي الذي أجراه ميليس من خلال استجواب الشهود وتوقيف المشتبه بهم. ولكن لم يجرِ توقيف أحد خلال رئاسته لفريق الأمم المتحدة، ماتسبب بتعطيل شديد للتحقيقات، ولاحقاً للمحاكمة أمام المحكمة الخاصة بلبنان. واقع الحال هو أن البعد الأساسي الذي تمحور حوله قرار الاتهام الصادر عن المحكمة، ويتمثّل تحديداً بتحليل الاتصالات بين قتلة الحريري، لم يطوّره في البداية محققو براميرتس، إنما ضابط لبناني في قوى الأمن الداخلي يدعى وسام عيد، وقد حصل على المعلومات من فريق الأمم المتحدة. اغتيل عيد في كانون الثاني/يناير 2008، فيما نجا رئيسه سمير شحادة بأعجوبة من محاولة اغتيال في أيلول/سبتمبر 2006.
لماذا سلّم براميرتس كلاً من شحادة وعيد المعلومات الأهم في ملفاته؟ حتى داخل فريق الأمم المتحدة، لم يتمكّن البعض من تفسير هذا القرار. وعلى نحوٍ أدق، لماذا أقدم براميرتس على ذلك بعد أن حجب الجزء الأكبر من تحقيقاته عن اللبنانيين؟ التفسير الوحيد هو أن القاضي البلجيكي لم يرد الكشف عن أي شيء، وتوقّع أن يصطدم اللبنانيون بحائط مسدود، وبالتالي طمس بيانات الاتصالات التي تحمل مفاجآت من العيار الثقيل. لكنه أساء التقدير، إذ اكتشف عيد الذي عمل بمفرده، معلومات كثيرة تُورّط حزب الله. وفي كانون الأول/ديسمبر 2007، أكّد فريق تحليل تابع للأمم المتحدة دقّة الاستنتاجات التي توصّل إليها عيد، وفقاً لما جاء في وثائقي بثّته هيئة الإذاعة الكندية.
لا يمثّل التحقيق في قضية الحريري انتصاراً للعدالة تحت رعاية الأمم المتحدة، بل إنه بمثابة عبرة يجب أن يؤخَذ بها لتجنّب تكرارها. قد تُصدر المحكمة الخاصة بلبنان حكمها بحق عناصر حزب الله، إنما لا أحد منهم موجود في الحجز، ويُعتقَد أن الكثير منهم قد لقوا مصرعهم. يُشار إلى أن براميرتس الذي غادر بيروت من دون أن يحقق شيئاً على الإطلاق، عُيِّن في إحدى المحاكم التابعة للأمم المتحدة، مايطرح تساؤلات بشأن المعايير التي تستخدمها المنظمة لترقية المسؤولين فيها. وأكثر مايبعث على الاضطراب هو أن وسام عيد لقي حتفه لأن التحقيق التابع للأمم المتحدة ألقى بين يدَيه المعلومات الأشد إدانةً.
لقد أشيد سابقاً بتحقيقات الأمم المتحدة من خلال الإشارة إلى أنها تشكّل آلية لإنهاء حالة الإفلات من العقاب. لكن تبيّن أنها عكس ذلك تماماً. فالأشخاص الذين يُعتقَد أنهم نفّذوا عملية اغتيال رفيق الحريري قد لا يواجهون أي عقاب اليوم. مع ذلك، ستكون الأمم المتحدة راضية عن نفسها وتعلن أن العدالة قد تحققت. ولكن سلوكها منذ العام 2005 يؤكّد أن نواياها كانت في الواقع تجنُّب إحقاق العدالة.
المصدر: مركز كارنيغي للشرق الأوسط