مايراف زونسزين
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
يعرب اليمين عن قلقه من الآراء التقدمية التي يتهمها بتقييد حرية التعبير، لكنه لا يقول أي شيء عن كيفية استخدام معاداة السامية كسلاح لقمع الكلام عن إسرائيل.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، انخرطت وسائل الإعلام الأميركية الرئيسة في نقاش حول رسالة مفتوحة نُشرت في “مجلة هاربر”، والتي تحذر من أن المراجعات والجدالات الحالية حول العدالة العرقية والاجتماعية تؤدي إلى مناخ غير متسامح يهدد حرية التعبير، ويؤدي إلى ما يسميه البعض “ثقافة الإلغاء”. لكن الغائب الواضح عن هذا النقاش هو ديناميات القوة التي تحدد مَن يقرر حدود الكلام المقبول، وكيف يتم تسليح هذه الحدود بغية “إلغاء” الآخرين.
ربما يكون هذا السهو المقصود أكثر وضوحًا عندما يتعلق الأمر بالاتهامات بمعاداة السامية. على سبيل المثال، بعد أن كتب بيتر بينارت مقالات في “تيارات اليهودية” وصحيفة “نيويورك تايمز” الشهر الماضي، والتي دافع فيها عن دولة ثنائية القومية للإسرائيليين والفلسطينيين، رد الأستاذ الفخري بكلية الحقوق بجامعة هارفارد، آلان ديرشوفيتز، بمقالة في نيوزويك بعنوان “حل بينارت النهائي: إنهاء إسرائيل باسم دولة قومية للشعب اليهودي”. وليست مقارنة ديرشوفيتز للمساواة بين اليهود والفلسطينيين بالإبادة الجماعية النازية سخيفة فحسب -إنها محاولة لإسكات نظير يهودي باستخدام اتهام لا أساس له بمعاداة السامية.
من غير المحتمل أن يعتقد أي شخص بجدية أن بينارت يكره الشعب اليهودي أو يسعى إلى تعريضه للخطر، إلا أن العديد من النقاد وجهوا إليه اتهامات مماثلة. وفي رسالة إلى المحرر نُشرت في صحيفة “نيويورك تايمز”، بالكاد توقف نائب المدير الوطني لرابطة مكافحة التشهير، كين جاكوبسون، على عتبة وصف بينارت بمعاداة السامية، مشيرًا إلى أن بينارت على الأقل “يخدم مصالح المعادين للسامية”.
وظهر اتهام آخر مشابه مؤخرًا عندما اقترحت كاتلين فلاناغان، الكاتبة في مجلة “الأتلانيك”، أن إيماني غاندي، المحررة المسؤولية في “رواير نيوز”، -أدلت بتعليق معادٍ للسامية عندما غردت على تويتر بأن البعض في وسائل الإعلام “يقيمون شيفا لباري فايس”، (تشير “إقامة شيفا” إلى الطقس اليهودي للحداد على وفاة الشخص لمدة سبعة أيام). وكانت تغريدة غاندي قد جاءت ردًا على زعم فلاناغان بأن استقالة محرر مقالات الرأي في “نيويورك تايمز” كانت “أكبر قصة إعلامية منذ سنوات”. وفي النهاية حذفت فلاناغان التغريدة بعد أن أشار الناس إلى أن غاندي سوداء ويهودية معا.
يهدف التذرع غير المقبول بمعاداة السامية إلى فعل شيء واحد: إسكات الناس، سواء عن طريق طردهم من وظائفهم أو وصفهم هم وأفكارهم بعدم الشرعية -بمعنى آخر، إلغائهم. ويتم استخدام هذا الاتهام في كثير من الأحيان، وبفعالية كبيرة، بسبب شبه الإجماع السائد على أن معاداة السامية هي خط أحمر لا ينبغي للمرء تجاوزه.
ولكن، عند الفحص الدقيق، يتضح أن هذه الاتهامات غالبًا ما تُوجّه ضد الملونين بعد انتقادهم لإسرائيل. ومن بينهم عضوتا الكونغرس رشيدة طليب (ديمقراطية من ميتشيغان) وإلهان عمر (ديمقراطية من مينيسوتا)، وهما أول امرأتين مسلمتين تخدمتان في مجلس النواب؛ ومارك لامونت هيل، الذي فصلته شبكة (سي إن إن) في العام 2018 بعد أن دعا إلى “فلسطين حرة من النهر إلى البحر”. بل إن هذا الاتجاه وصل إلى أنجيلا ديفيس، التي ألغيت لها في العام 2019 جائزة لحقوق الإنسان (وأعيدت لاحقًا) من قبل معهد برمنغهام للحقوق المدنية، على الأرجح بسبب دعمها الصريح لحقوق الفلسطينيين.
استخدام اليهود لإلغاء الآخرين
تأتي هذه الاتهامات بمعاداة السامية حتى بينما يستحضر أولئك في داخل الحكومة الأميركية والمتصلون بها مرارًا وتكرارًا استعارات ورموز معادية للسامية. ويتراوح ذلك من حملة إعادة انتخاب ترامب التي تنشر صورًا تحمل أيقونات نازية على “فيسبوك”، إلى الجمهوريين مثل النائب مات جايتز (جمهوري من فلوريدا) ومحامي ترامب، رودي جولياني، اللذين ينشران نظريات مؤامرة معادية للسامية حول جورج سوروس، إلى الموقع الرسمي للحزب الجمهوري الذي يصف جو بايدن بأنه “دمية” للسيناتور بيرني ساندرز (مستقل من فيرمونت) و”اليسار الراديكالي”.
يسمح الاتهام بمعاداة السامية للمتهم بأن يتجنب الانخراط في المحتوى الفعلي للنقاش بينما يبدو وكأنه يحتل مكانة أخلاقية عالية. وقد اشتهر باري فايس بفعل ذلك، من قيادته حملة كطالب في جامعة كولومبيا لإلحاق الضرر بعمل الأساتذة العرب بسبب آرائهم حول الصهيونية، إلى تضخيم اتهام كاذب بكراهية اليهود، والموجه إلى رسام الكاريكاتير اليهودي إيلي فالي.
وبالمثل، في الخريف الماضي، احتجت مجموعة من الطلاب في كلية بارد بشكل سلمي على مشاركين في جلسة نقاشية تضم روث فايس، وهي أستاذة متقاعدة من جامعة هارفارد، لها سجل في الإدلاء بتصريحات متعصبة ومعادية للعرب. وأدارت الجلسة محررة الرأي في “ذا فوروارد”، باتيا أنغار-سارغون، التي نشرت بعد الحدث مقالاً يتهم الطلاب -والكثير منهم يهود- بمعاداة السامية، ووجهت نفس التهمة إلى زميلها في الجلسة –معلم يهودي أسود- والذي دافع عن حرية التعبير للطلاب. وتناقضت هذه الاتهامات بشكل مباشر مع روايات العديد من الأشخاص الحاضرين في الحدث، لكنها تسببت مع ذلك في إلحاق ضرر كبير بشرعية المتهمين.
هذا النوع من ثقافة الإلغاء هو بالضبط التكتيك الذي استخدمه الجمهوريون، والذي شجعه الرئيس ترامب، ضد الديمقراطيين في السنوات الأخيرة. في 14 تموز (يوليو)، وجه النائب سكوت بيري (جمهوري من ولاية بنسلفانيا) وأحد عشر جمهوريًا رسالة إلى وزير الخارجية مايك بومبيو، والتي وصفوا فيها الديموقراطيين بمعاداة السامية لأنهم عارضوا خطة إسرائيل لضم أجزاء من الضفة الغربية المحتلة.
قال بيري في رسالته: “سوف تتلقى قريباً رسالة تنتقد أي ضم محتمل لمنطقة يهودا والسامرة”، مستخدماً المصطلحات التي يفضلها لوصف الضفة الغربية المحتلة اليمين القومي والديني في إسرائيل واليمين الصهيوني في الولايات المتحدة، بما في ذلك المسيحيين الصهاينة. وأضاف: “ونحن نحثكم على رفض معاداة السامية الصارخة التي تسود الرسالة”. وبهذا المنطق، يكون قسم كبير من المواطنين الإسرائيليين، بمن فيهم بعض كبار خبراء الأمن، معادين للسامية.
وكانت الرسالة التي تحدث عنها، والتي دعت الحكومة الأميركية إلى جعل تقديم المساعدة لإسرائيل مشروطاً إذا واصلت خطتها للضم، قد جاءت بمبادرة من النائبة ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز (ديمقراطية)، ووقعها السيناتور بيرني ساندرز، وهو يهودي. وبالمثل، أعرب كبار الديموقراطيين اليهود، مثل السناتور تشاك شومر والنائب جيرولد نادلر، عن معارضتهم للضم في رسالتهم. ومع ذلك، لم يكن هناك أي من الجمهوريين الذين وقعوا على رسالة بيري يهوديًا.
استخدمت إدارة ترامب مرارًا دعم الرئيس ترامب السياسي لإسرائيل لاتهام الحزب الديمقراطي ومنتقدين آخرين لإسرائيل بمعاداة السامية. وفي الشهر الماضي، اتهم إيلان كار، المبعوث الخاص لوزارة الخارجية لرصد ومكافحة معاداة السامية، مجموعة الضغط اليسارية الموالية لإسرائيل “جيه ستريت”، باستخدام “صور” و”نظريات مؤامرة” معادية للسامية لترويج حملتها “أوقفوا الضم”، مع صورة لترامب، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وجاريد كوشنر، والسفير الأميركي لدى إسرائيل ديفيد فريدمان، وجيسون دي جرينبلات، الذي كان في السابق ممثل ترامب المسؤول عن شؤون إسرائيل والفلسطينيين.
وأظهرت الصورة رئيسي الدولتين اللتين وضعتا ما تسمى بـ”صفقة القرن” إلى جانب فريق ترامب للضم. ويُظهر ادعاء كار بأن استخدام “جيه ستريت” للصورة معاد للسامية المدى الذي وصل إليه تسليح معاداة السامية: الشخصيات اليمينية في مناصب السلطة، سواء كانت يهودية أم لا، تمتلك الجرأة لاتهام أي شخص تريده بالعنصرية المعادية لليهود بسبب سياسته التقدمية.
لن يفقد كار وظيفته. ولكن في وقت سابق من هذا العام، فُصِل مدرِّس يهودي من مدرسة فيلدستون للنخبة في برونكس من عمليه، ظاهريًا لتبينه آراء معادية للصهيونية والتعبير عن دعمه لمقاطعة إسرائيل. ومُنع عمر البرغوثي، الذي شارك في تأسيس الدعوة الفلسطينية إلى المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض عقوبات على إسرائيل، من دخول الولايات المتحدة العام الماضي من مطار بن غوريون الإسرائيلي. وحُرم ستيفن سلايطة، الأستاذ الفلسطيني الأميركي، من العمل في جامعة إلينوي في أوربانا شامبين بسبب تغريداته التي انتقدت الهجوم الإسرائيلي على غزة في العام 2014. وسجلت منظمة الدفاع القانوني عن فلسطين 1.494 حادثة رقابة على أنشطة المناصرة للفلسطينيين في الولايات المتحدة بين العامين 2014 و2019.
بخلاف هذه الأمثلة الفردية، هناك أيضًا إطار قانوني مزدهر يهدف إلى قمع التعبير في الولايات المتحدة. ولدى 32 ولاية أميركية الآن قوانين لمناهضة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات، والتي تمنع الولايات من التعامل مع المقاولين الذين يقاطعون إسرائيل، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن القيام بذلك يعتبر معاداة للسامية بطبيعته.
هذه، في الواقع، هي طليعة الاعتداءات على حرية التعبير في الولايات المتحدة. فبعد كل شيء، ما هي ثقافة الإلغاء إن لم تكن القدرة على جعل شخص ما يدفع كلفة؛ بخسران عمله أو حريته في التنقل؟
تظل معاداة السامية تهديدًا قويًا. وما تزال المجازات المعادية للسامية القديمة التي تصور اليهود على أنهم مسيطرون غامضون وخبيثون على وسائل الإعلام أو المال أو “نظام عالمي” مفترض، حاضرة بيننا. ومع ذلك، فإن هذه الشائعات تتعايش بشكل متزايد مع الفاعلين اليمينيين -وخاصة أولئك في السلطة- الذين يصنفون اليهود بشكل متزايد على أنهم ضحايا دائمون يجب حمايتهم، حتى عندما يستشهد هؤلاء الفاعلون أنفسهم بمجازات معروفة معادية للسامية في أماكن أخرى. وبشكل عام، يتم توجيه هذه الاتهامات بمعاداة السامية -خاصة فيما يتعلق بإسرائيل- من أجل كسب الرواج السياسي، حتى لو لم يكن للجدل المطروح أي تأثير على التهديدات الفعلية الموجهة إلى اليهود.
إن استخدام تسمية معاداة السامية بشكل غامض وبحريّة لا يعيق حرية التعبير فحسب، وإنما يزيد أيضًا من صعوبة تحديد التهديدات الفعلية للشعب اليهودي ومكافحتها. ولا يعني تسليح معاداة السامية “إلغاء” المدافعين عن الحقوق الفلسطينية والفشل في جعل اليهود أكثر أمانًا فحسب؛ إنه يستخدم اليهود لإلغاء الآخرين أيضا.
*صحفية ومحررة تكتب عن إسرائيل-فلسطين ودورها في السياسة الأميركية. تنشر كتاباتها في “الغارديان”، و”نيويورك تايمز”، و”الواشنطن بوست”، و”نيويورك ريفيو أوف بوكس”، و”ذا إنسبت”، و”فورين بوليسي”، والكثير من الأماكن الأخرى.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: False charges of antisemitism are the vanguard of cancel culture
المصدر: (مجلة 972+) / الغد الأردنية