جهاد عدلة
جاري صاحب البدّالة (الدكان) رجل طيب، أو هكذا يبدو لي، ويحافظ على صلواته، وكثيرا ما يظهر لي اهتمامه بأحاديثي الجانبية معه، عندما أعرّج على بدّالته، لشراء بعض الأغراض، أو هكذا يبدو لي. ولأنه كذلك، ولأنني أرى انهماكه الدائم في العمل بطريقة تُشعر الناظرَ إليه أنه لا يسمع شيئا غير صدى “قعقعة” علب الفول في دكانه، أو تلاطم عبوات الجبنة في أثناء وضعها في الثلاجة، ولأنه أيضا أشرك أولاده الشباب معه في البدالة زهادة في العلم والمدرسة، أقول لأنه كذلك، فكثيرا ما أحاول لفت نظره إلى مسائل لا بد للمرء من أن يدركها ويعيها، ويحدث نفسه بها، ويطبق منها ما أسعفته على ذلك قدرته، وأتخذ من خاصية “الحالة” على الواتس اب وسيلة للإبلاغ سواء له أو لمن هو في حكمه ممن يُظن باستجابته لكلمة الخير. أكتب في الحالة، بعبارة مقتضبة، عن التربية وإعداد الأبناء لسد ثغرة في جدار المجتمع المسلم، فأرى على حالته “أفضل أنواع المكدوس”، فأعيد الكرّة، متحدثا هذه المرة عن ضرورة التخفف من أحمال الدنيا، والزهد في متاعها التي لا تنقضي، فيرد “بأجود أنواع الجبنة المشللة”، فأغالب نوازع الملل والفتور في نفسي، فأصوّر متعة الاشتغال بالنفس تأديبا وتزكية، كطريق لخلاصنا، أو خلاص الجيل الذي سيرثنا، من الضنك ومشقة العيش التي نكابدها ونحن نرى واقع المسلمين في كل واد، فأرى على حالته “لبن غنم نوع أول”، غير أنني لا أستسلم لنوازغ الشيطان بيني وبين أخي، ولا أنحني أمام وساوس النفس، فأعاود الكتابة عن ضرورة أن يخصص كل منا شهريا، جزءا من ماله، ولو يسير، إلى من لا يجدون مأوى أو كلأ من أهلنا في بلادنا المنكوبة، فيفجؤني “بزيت الزيتون الصافي” و”ملوخية نخب أول”. والحق أن جاري المأخوذ بالدنيا، واللاهث وراء ما ضُمن له، لهاثا يتجاوز حد الأخذ بالأسباب، ويعطل أعمال القلب، ويحرم النفس من أنس العيش براحة وهدوء، أو هكذا يبدو لي، يفيض من لسانه عذبُ الكلام، وحلو المعاني، شرط أن لا يقرب أحدٌ بدّالته الحبيبة، ودكانه الأريبة، وحينما فعل جار له ذلك، فقرر أن يفتح بدالة بجانبه، ولكن بعد استئذانه، غلبت على وجه جاري “الصُفرة”، وتبدل لسانه، فقصف جارَه المستأذن منه بما لم يلذ من العبارات ولم يطب. والحق أن جاري لا يختلف عن كثير ممن أعرفهم من شرائح مجتمعية متعددة، ومستويات متنوعة، ودرجات متفاوتة، بمن فيهم كاتب السطور، غلب عليهم التفكير المادي، حتى أنساهم أرواحهم، فصارت صلواتهم أشبه بحركات ميكانيكية اعتيادية، تؤديها آلات بشرية، يغادرون المسجد، متنفسينَ الصعداء، ليجتمعوا بعد ذلك في جلسات أنس على مائدة تشريح الناس وتجريحهم في وجبة قد تمتد لساعتين، كثيرا ما تنتهي بشقاق ذات البين، باعثُه تعصبٌ لفكرة أو رأي وراءهما “أنا” متضخمة، لو جلستْ مكان بشار أسد أو السيسي أو أمثالهما، لسلم منها أقل ممن سلم من سيِّئَي الذكر في سورية ومصر.