محمود الوهب
لم تكن بوادر عمليات التطبيع في العلاقات الشاملة بين بعض الدول العربية وإسرائيل لتؤخذ في الذهنية الشعبية على محمل الجد أو التصديق، ولم تكن تلك الذهنية، بل الشخصية الشعبية العربية قادرة على استيعابها..! فلم تكن لتنظر إلى القضية الفلسطينية على أنها قضية مستقلة عن قضاياها السياسية إذ هي في مقدمتها وأولى مهامها! ولم تكن تلك الذهنية لتنظر إليها من خلال العقل السياسي وحده، بل هي ممتزجة بأمور اجتماعية وبمشاعر إنسانية شكلت عبر زمن طويل كينونة أو هوية صقلتها علاقات نمت، وتبلورت بروابط التاريخ والجغرافيا واللغة التي هي هوية بذاتها، إضافة إلى الثقافة التي تمتد في عمق الزمن قروناً طويلة.. ومن هنا بقيت تلك البوادر في إطار التكهنات بعيدة عن التصديق أو الهضم، رغم كل ما تناقلته وسائل إعلام مختلفة على مدى سنوات خلت حول ما يجري وراء الكواليس تارة، وفي العلن تارة أخرى. وعبر ما تعبر عنه شخصيات رسمية أو اجتماعية أو إعلامية إلى أن جاء الاتفاق الذي أعلن بين دولة الإمارات العربية وإسرائيل ليصفع تلك الذهنية صفعة أحالتها إلى فعلة الرئيس المصري أنور السادات المشابهة، وقد رفضها الشعب المصري، ولم يزل، رغم أنها أعادت له أرضه المحتلة..!
فكيف يتقبل المواطن العربي الصفعة الإماراتية التي أتت هدية بلا مقابل، لا بل إنها حملت في طياتها ذلاً ولؤماً صهيونياً..! ظهر ذلك في تقييم “بنيامين نتنياهو” رئيس الوزراء الإسرائيلي للاتفاقية، وإشادته بها، إذ أتت، بحسب ما قال، على قاعدة: “السلام مقابل السلام”، و”السلام من منطلق القوة!” وكذّب تبرير وزير الخارجية الإماراتي الذي زعم بأن الاتفاقية جاءت لإيقاف إسرائيل عن ضم الأراضي فقال نتنياهو:
“تلقينا طلبًا بالانتظار مؤقتًا من الرئيس ترامب. إنه تأجيل مؤقت. لم يتم إزالته من على الطاولة..” إذاً لماذا هذه الاتفاقية، وما دواعيها ودوافعها البعيدة؟!
لا شك في أنَّ للسياستين الأميركية والإسرائيلية دوراً كبيراً فيما حصل..! كما أنَّ لحالة الضعف العربي، وصراعات محاور أقطابه وما آل إليه من انحدار في السنين الأخيرة دوراً رئيساً في ذلك، إضافة إلى أنّ الواقع الفلسطيني ليس بأفضل، إذ يعاني الفرقة والتمزق وعدم الاتفاق على رؤية موحدة في إطارها العام.. رؤية تتوافق مع الظرفين العربي والدولي تمهد لحل سياسي وفق قرارات الأمم المتحدة..!
ويأتي الاتفاق في سياق صراع المحور الأميركي/الإسرائيلي/السعودي من جهة، ومحور إيران وحلفائها من جهة ثانية، ويبدو أن المملكة السعودية وجدت، بعد المقارنة، أن إيران أشد خطراً عليها من إسرائيل وأن الأخيرة يمكن أن تكون الشريك الآمن أكثر من إيران..! وقد كشف عن تلك الرؤية في الفترة الأخيرة بعض ما تركز عليه الصحافة السعودية والخليجية..
إنَّ لكل ما ذكر أسبابه الوجيهة، لكنَّ قراءة الواقع تقول بأن ثمة دوافع أخرى تكمن خلف ذلك الاتفاق الذليل الذي ستتبعه اتفاقات بحسب ما يصرح الأميركان والإسرائيليون يأتي في مقدمتها:
أولاً: السبب الرئيس القديم/الجديد/ بل الدائم هو عامل الخوف من ضياع حكم أتى إليه هؤلاء جميعاً بطرق غير شرعية، طرق لا تنسجم مع روح العصر، بل بطرق قائمة على الغدر والخيانة وسفك الدم، ويتساوى في ذلك معظم الملوك والأمراء.. إضافة إلى العسكر الذين تناوبوا حكم بلدانهم بانقلابات عسكرية رافعين شعارات وطنية أو ثورية كاذبة، فلا أفلحوا بهذه ولا بتلك.. وترى الجميع لم يأتوا إلى الحكم إلا بقتل أخ وابن عم ورفيق حزب ودرب أو بالتآمر على مثل هؤلاء، وبرعاية الأجنبي، وفق مبدأ المنفعة المتبادلة، وحماية مصالح كل منهما، لكن على قاعدة الأجير والمعلم التي يفرضها موقع كل منهما، وما يقدمه لهذه الشراكة النفعية.. وسير الجميع عموماً متشابهة وإن كان لكل منهما بعض الخصوصية.. ولا يسمح المجال للخوض فيها..
ثانياً: إن بعض الخوف يأتي اليوم من هذه المرحلة الجديدة التي تقبل عليها المنطقة، بفعل جيل الشباب الذي نشأ على إعلام جديد متاح للجميع، يشير إلى ذلك ما تشهده دول المنطقة من حركات تعدُّ ثورية، على نحو أو آخر، سواء نجحت أم لم تنجح، وسواء لبست لبوس الإسلام السياسي، أم لبوس العلمانية الليبرالية، فهو بالتالي محكوم بقضايا البناء على أسس ديمقراطية تناقض ما هو قائم وتنفيه تمشياً مع حركة الحياة ونموها وتطورها وإتيانها بالجديد الملائم إن مثل هذه الحركات ترهب الأنظمة التي لا تزال تمثل عقلية القرون الوسطى، في عالم ترسم خطاه ثورتا المعلوماتية والاتصالات ودولة المواطنة.. ولا أدل على تلك العقلية من أنها وقفت مواقف مترددة من الثورة السورية، و”بحسب سعد الجبري المستشار السابق لوزير الداخلية السعودي إن محمد بن سلمان وافق على التدخل الروسي في سوريا”. بينما أعلنها نتنياهو صراحة في مؤتمره الصحفي إذ قال: “سيكون هناك المزيد من الدول العربية التي تنضم إلى السلام”. مضيفاً: “نحن جبهة واحدة ضد العناصر المتطرفة التي تهددنا وتهدد سلام العالم”.
ثالثاً: ما يؤكد ذلك الخوف أيضاً هو ما كشفت عنه وسائل الإعلام من تعاون بين إسرائيل وبعض تلك الحكومات في مجال الأمن السيبراني الذي هو في النهاية: “مجموعة من الإجراءات التي اتخذت في الدفاع ضد هجمات قراصنة الكمبيوتر وعواقبها، ويتضمن تنفيذ التدابير المضادة المطلوبة”. ويهتم الأمن السيبراني بـ “حماية المعلومات بجميع أشكالها المادية والإلكترونية، من مختلف الجرائم: (الهجمات، التخريب، التجسس والحوادث)”.
وتشير التسريبات التي تأتي بها المواقع الإلكترونية أن الاتفاق الأخير وما يجري في الدهاليز المعتمة يعود إلى جهود “الموساد” إذ تقول بعضها “إن جيش الاحتلال الإسرائيلي تمكّن من إقامة قناة لتبادل المعلومات الاستخبارية مع المملكة السعودية، وعلى أعلى المستويات، كما أقر بذلك رئيس هيئة أركان الجيش الإسرائيلي السابق غادي أيزنكوت خلال عام 2017”.
أخيراً يبقى الأمل منوطاً بقدرة هذه الثورات في سوريا والعراق ولبنان وتونس والجزائر واليمن وليبيا وتلك الغافية تحت سلطات القمع على الاستمرار والنجاح وإن تعثرت بعض الشيء في خطوها..
المصدر: تلفزيون سوريا