ميسون شقير
كلما التقيتها، هنا في مدريد، تدهشك، وتكتشف أنك كنت قد أغفلت الكثير من جوانب شخصيتها، فهي تباغتك بالبحث العميق، بالدفاع المستميت عن قضيتها، بهذه القدرة على حمل عالمين كاملين، العالم السوري والعالم الإسباني، بكامل طزاجتهما في داخلها، معروفة في كل الأوساط الصحافية والإعلامية الإسبانية، ككاتبة وناشطة ومدافعة عن حقوق الإنسان.
إنها الكاتبة والصحافية السورية الإسبانية الدكتورة ليلى نشواتي، مستشارة اتصالات، وناشطة في مجال حقوق الإنسان، أستاذة جامعية تحاضر في جامعة خوان كارلوس الثالث في مدريد، وذلك ضمن تخصص علوم الاتصال. وهي التي دافعت عن ثورة الشعب السوري منذ البداية في 2011 وصوت الثورة الحقيقي والحر، صوت السلمية والمدنية، صوت الهتافات الأولى، صوت الذين ضاع صوتهم.
ولِدت ليلى نشواتي في إسبانيا عام 1979 لأب سوري وأم إسبانية مما جعلها تحمل كلا الجناحين في تحليقها، ومما جعلها تصل بهما إلى آفاق متفردة أكاديميا، ثقافيا، فكريا، وقدرة على التعبير والتأثير.
تحمل ليلى نشواتي إجازة جامعية في الأدب العربي، وأخرى في الأدب الإنكليزي من جامعة غرناطة، كما تحمل شهادة ماجستير في النقد الأدبي، وشهادة ماجستير في التعاون الدولي، وشهادة ماجستير ثالثة في أبحاث الإعلام. كما أنها تحمل شهادة دكتوراه فخرية من جامعة “خوان كارلوس الثالث”، عن بحثها الأكاديمي حول لافتات مدينة “كفرنبل” في الثورة السورية وتأثيرها على الإعلام العالمي، تعمل الآن أستاذة محاضرة بجامعة الملك خوان كارلوس في الميديا والإعلام المعاصر والعلاقة بين العنف والميديا، عملت أيضا صحافية في أهم الصحف الإسبانية مثل جريدة “إل بايّس” اليومية، وهي عضو ناشط في “جمعية الاتصالات التقدمية”، التي تعرف بأنها شبكة للنشطاء تساعد الحركات الشعبية والمواطنين لاستخدام وسائل الاتصال بشكل فعال.
لقد كانت أول زيارة لها إلى بلدها الأم سورية في عام 1982، وعند وصولها إلى مطار دمشق وهي ابنة ثلاث سنوات في ذلك الحين، اعتُقِل والدها الطبيب السوري المعروف في إسبانيا، لِيُساق إلى الخدمة العسكرية، ذلك الطبيب الذي كان قد بلغ عمره حينها 36 عاماً. وهكذا بقيت ليلى في سورية حتى أنهى والدها خدمته العسكرية، لتعود إلى إسبانيا في عام 1986، ولتحمل في روحها كرها عميقا لنظام يتجار بأبنائه.
منذ بداية الثورة السورية، عملت ليلى مع مجموعة أصدقاء، وهم نشطاء وصحافيون سوريون، إضافة إلى مبرمجين ومصممين من سورية وخارجها على إنشاء موقع “حكاية ما انحكت” وهو الموقع الذي يهتم بأرشفة الحركة الشعبية السورية من خلال تقديم محتوى فني وإبداعي غني يتناول القصص السورية ويتناول روح الثورة وأحداثها وعمقها من خلال روي الحكاية لتحول التاريخ إلى لحم ودم، والموقع يصدر مترجما للإنكليزية وللإسبانية أيضا، وقد كان له دور كبير في صناعة الرأي العام.
تكتب ليلى في موقع الجزيرة الإنكليزية. وقد كتبت في الدفاع عن القَضية الفلسطينية والتعريف بها في إسبانيا من خلال إنشائها لنشاط سياسي واجتماعي مع مجموعة من شباب الجالية العربية ومن الناشطين الإسبان المناصرين لفلسطين.
تجيد ليلى التحدث بالعربية الفصحى، واللهجة العامية الشامية، وهذا ما حوّلها إلى صلة وصل حقيقية بين سورية بكل عمقها الحضاري والمعرفي وبكل أوجاع ثورتها، وبين إسبانيا البلد الأوروبي ذي الملامح العربية.
في العام الماضي نشرت ليلى نشواتي روايتها الأولى “عندما تنتهي الثورة” هنا في مدريد باللغة الإسبانية، والتي لاقت حضورا حقيقيا لما فيها من تفاصيل حياة الناشطين السوريين في السنة الأولى من عمر الثورة السورية.
عن تجربة ليلى نشواتي الكاتبة والأكاديمية، السورية الإسبانية، وعن روايتها الأولى كان لنا معها هذا الحوار الشيق والمؤلم أحيانا بقدر وجع الصوت السوري:
*أين تجد ليلى نشواتي نفسها أكثر، في الرواية أم في المقالة الصحافية القوية، أم في دفاعها المستميت عن الحقيقة والحياة؟
منذ عدة أعوام، وأنا أكتب مقالات وأشارك في إعداد ورش عمل حول سورية والشرق الأوسط، ومع مرور الوقت اتضح لي بأن ماهية الوطن لا تُدرك بل تتجلى وتعبر عن نفسها عبر رموز جيو-استراتيجية وهويات عميقة، والآن أجد أن الرواية والمقالة الصحافية وموقع حكاية ما انحكت، وكل طرق الدفاع عن الحياة، كلها أشكال مختلفة للتعبير عن الشيء نفسه بالنسبة لي، وهي ليست متناقضة أو متعارضة فيما بينها.
*هل تعتقدين، وأنت من مؤسسي “حكاية ما انحكت”، أن العالم ما زال قادراً على سماع حكاياتنا؟
لا شك في أننا نعيش اليوم حمى إعلامية تبحث دوما -لا بل تخلق – “الجديد” بهدف زيادة الاستهلاك، والحالة السورية – بما هي حالة مركبة وطويلة الأمد (7 سنوات)- كان من الصعب الحفاظ على مستوى الاهتمام نفسه في وسائل الإعلام الكبرى، لكن مهمتنا ألا نتوقف عن رواية قصص السوريين في الداخل والخارج وإسماع أصواتهم.
*ليلى الحاملة لإجازة في الأدب العربي والآداب الإنكليزية، والتي تتحدث وتناقش وتكتب في الصحافة الإسبانية، بأية لغة تعتقدين أنه كان علينا، نحن السوريين، أن نترجم أحلامنا وأوجاعنا كي يفهمها العالم؟
من المهم لنا، نحن الذين نستطيع القيام بدور الجسر الثقافي والمعرفي أن نستمر في ذلك، وخصوصا من جهة نقل ما يحصل على الجانب العربي إلى الخارج، وأذكر ضمن التجارب المهمة، نعومي راميريز التي عملت بجد منذ بداية الثورة في سورية على نقل وترجمة أصوات الداخل السوري إلى الإسبانية … فما يحصل للسوريين اليوم لا يخص السوريين فقط، بل الإنسانية جمعاء، وعلينا أن نستمر بعملية أنسنة السوريين ضد الاتجاهات الكثيرة التي تنزع إنسانيتهم وتحولهم إلى مجرد أرقام وأشياء.
*هل الرواية برأيك هي حامل حقيقي حي للتاريخ يجعله من لحم ودم، أم أنها قطعة مكثفة من الحياة؟
إنها الاثنان معا، فالرواية التي سمحت لي بإعادة خلق حكايات كثيرة عشتها في سورية بحرية مطلقة، استطاعت أيضا خلق التعاطف لدى الآخر، وتقريب واقع غير معاش إلى واقع آخر، فالشخوص المندمجة مع تاريخها تكثفت وأصبحت من لحم ودم وروح. أعتقد أنه باستطاعة الرواية أن تصل إلى شريحة عريضة من الناس وتجعلهم يتفاعلون ويتعاطفون مع أحداث يظنون بأنها بعيدة جدًا، لكنها في الحقيقة ليست بذلك البعد. تركزت القراءات الأولية حتى الآن حول الطريقة التي تعرضت فيها الرواية للحال الذي كانت عليه سورية قبل عام 2011 عن الحياة العامة، نوعية الطعام، وكيف كان الناس يستمتعون بوقتهم وما الذي دعوا إليه وطالبوا به في الاحتجاجات التي انطلقت عام 2011، هذا مهم بحد ذاته لأنه يوحد ويسهل بنفس الوقت التعاطف، فهذا أمر لا تلمسه عادة في التحليلات السياسية ولا في التغطيات الإعلامية التقليدية.
*في روايتك الأولى “عندما تنتهي الحرب” حاولت أن تخلقي الحب كناجٍ وحيد من الحرب، وكمعادل لقسوتها، هل تراهنين على الحب، وهل كانت شخصية الناشطة في روايتك هي شخصية ليلى لو أنها كانت في سورية في 2011؟
ككاتبة لا أؤمن كثيرا بروايات السيرة الذاتية، الرواية مع أنها من بنات أفكار (أو أحشاء كما نقول بالإسبانية) المؤلف، إلا أنها تتخطى دوما البيوغرافي التسجيلي، فالشخوص والأحداث لا بد أن تتحرر من إرادة أو فكر الكاتب في لحظة ما وأن تعيش حكايتها الخاصة. روايتي هي تحيةٌ لتلك الفئة المجهولة التي تصارع لأجل البقاء على قيد الحياة، تقع في الحب، تتحمل وتقاوم في سبيل وطنها ومن أجل مجتمع أفضل حتى لو عاكستها الرياح من كل اتجاه.
*لماذا تعتقدين أنه، بالرغم من كل حكاياتنا ومن كل صور قهرنا وموتنا، ومن وجود سوريين مثلك حملوا هذه الثورة في أوروبا وحاولوا بكل ما يمتلكون أن ينقلوا حقيقتها، لماذا خذلنا العالم وهزمنا؟
لا يخفى على أحد اليوم أن هناك نظرة سائدة للعربي -المسلم – الآخر تضعه في خانة المتدين العنيف الطائفي الهوياتي ..الخ، ذلك يجعل من الصعب أن يتلقى العالم سردية الحراك الشعبي السوري كحراك يسعى نحو قيم إنسانية وكونية كالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، يضاف إلى ذلك أن سورية كانت على مدى خمسة عقود أشبه بالثقب الأسود، فلا أحد كان يعرف شيئا عن هذا البلد، فتجد اليوم أغلب “الخبراء” في الشأن السوري ينقصهم على الأقل 50 سنة من المعلومات.
*ليلى نشواتي الصوت السوري القوي الحر في إسبانيا، هل يمكن أن نراهن يوما على الشعوب الأوروبية برأيك؟
تعيش أوروبا اليوم أزمتها الخاصة، وتتعامل مع المشاكل التي تعترضها بشكل متخبط وغير كاف، كأزمة اللاجئين والهجرة والنزاعات (خارج الحدود وداخلها)، والأمل الوحيد الذي أراه، هو في المجتمعات المدنية حول العالم، في محاولة بناء وتمتين شبكات وتحالفات على مستوى عالمي بين كل الذين يناضلون ضد أشكال القمع والاستبداد التي تتقدم في العالم أجمع.
المصدر: موقع ضفة ثالثة