عماد كركص
مع استمرار مراوغة رئيس النظام السوري بشار الأسد ومماطلته في الامتثال للتسوية السياسية بمساراتها المختلفة، خصوصاً الأممية منها، لا يبدو أنّ واشنطن ستبقى مستكينة في مواجهته، مع بروز مؤشرات على ميل الإدارة الأميركية راهناً إلى الضغوط السياسية والدبلوماسية وتشديدها لتصبح مفاعيلها أقوى مع تعنّت الأسد، وسط معلومات عن اتجاه هذه الإدارة لتحريك ملفات الهجمات الكيميائية التي يقف النظام وراءها في أماكن متفرقة من البلاد وكانت أودت بحياة المئات من المدنيين.
ولا يزال الأسد يتحدى الجهود التي من شأنها إرغامه على الجلوس جدياً إلى طاولة الحلّ على أساس القرار 2254 (المتعلق بوقف إطلاق النار والتوصل إلى تسوية سياسية)، كما ترغب الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون. فقد بات واضحاً أنّ الأسد يحاول الالتفاف على العقوبات، وآخرها عقوبات “قانون قيصر” الأميركي، مستخدماً العديد من الطرق، إذ إنّ هناك معلومات مثلاً عن استيراده النفط عن طريق الموانئ اللبنانية بمساعدة إيران لتخفيف أزمة المحروقات.
كذلك، قدّم الأسد أشخاصاً شملتهم العقوبات لتسلم مناصب في الدولة، فيما تمثّلت رسالة التحدي الأكبر، المشتركة مع موسكو، بوصول وفد روسي رفيع المستوى إلى دمشق بداية سبتمبر/أيلول الماضي يحمل في جعبته 40 مشروعاً لإعادة الإعمار، وهي العملية التي تضع واشنطن أمام البدء بها خطوطاً حمراء، قبل قبول دمشق الانخراط جدياً في الحل السياسي الشامل.
مقابل ذلك، ذكرت وسائل إعلام أميركية أنّ إدارة الرئيس دونالد ترامب لا تسعى لفتح ملف الهجمات الكيميائية وحسب، بل إنها تسعى لملاحقة برنامج الأسلحة الكيميائية للنظام برمته. وكشفت مجلة “فورين بوليسي”، في السادس من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، عن تقرير أرسلته الخارجية الأميركية إلى الكونغرس العام الحالي، يؤكد مواصلة نظام الأسد مساعيه للحصول على مكونات لبرامج الأسلحة الكيميائية والصواريخ، حيث يسعى لتطوير إمكانياته وقدراته في إنتاج أسلحة استراتيجية، والتي كانت قد تآكلت خلال الحرب الدائرة منذ سنوات.
وأشار التقرير إلى أنّ الخارجية تراقب عمليات الشراء التي يقوم بها النظام لدعم منظومة الأسلحة الكيميائية وبرامجه الصاروخية، وسط مخاوف من ضلوع إيران في مساعدة النظام على التزوّد بصواريخ بالستية تدعم ترسانة غازي السارين والكلور لديه. وعلى الرغم من أنّ كوريا الشمالية نفت، في وقت سابق، ما أوردته تقارير أممية عن ضلوعها في تزويد دمشق بالمعدات والمواد اللازمة لإنتاج أسلحة كيميائية، إلا أنّ واشنطن تبدو غير مقتنعة بذلك، مع عدم تركيزها على مقدمي المساعدة للأسد، بقدر ما يهمها معرفة أين وصل الأخير في تطوير برنامجه الكيميائي وإعادة تأهيله.
وكانت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية قد أعلنت، مطلع الشهر الحالي، أنها لم تتمكن من إثبات الادعاءات التي تقدّم بها النظام حول وقوف المعارضة المسلحة وراء هجوم بالأسلحة الكيميائية في نوفمبر/تشرين الثاني 2018 في حلب، ما يشكل مزيداً من الضغط على النظام، المتبقي الوحيد في قفص اتهامات استخدام الكيميائي في البلاد.
وشهد مجلس الأمن، مطلع الأسبوع الماضي، إجماعاً كبيراً ضدّ محاولة المندوب الروسي في المجلس فاسيلي نيبيزيا، الذي تتولى بلاده رئاسة أعمال مجلس الأمن، لاستضافة المدير السابق للوكالة الدولية للطاقة الذرية خوسيه بستاني، لتقديم إفادة في المجلس لمحاولة الدفاع عن النظام، وقد صوّت سفراء الدول الغربية بالإجماع ضدّ مشاركة بستاني في الجلسة. واعتبرت مندوبة واشنطن في الأمم المتحدة كيلي كرافت، أن دعوة بستاني للإفادة في مجلس الأمن “مجرد حيلة ومحاولة يائسة وفاشلة من قبل روسيا لنشر المعلومات المضللة”، وأشارت إلى أنها تأتي “لصرف الانتباه عن الجهود المستمرة من قبل الدول المسؤولة لمحاسبة نظام الأسد على استخدامه الأسلحة الكيميائية”، مؤكدةً أن “استخدام نظام الأسد للأسلحة الكيميائية موثق جيداً”.
من جهته، يجهد مندوب النظام لدى مجلس الأمن، بشار الجعفري، في استغلال أي مناسبة للتذكير بأنّ دمشق تخلّصت من مخزونها الكيميائي، بالإضافة إلى تدميرها كل مرافق الإنتاج الـ27 منذ عام 2014، أي بعد اتهام النظام بالوقوف وراء مجزرة الغوطة في أغسطس/آب 2013. وقد طالب في جلسة غير رسمية لمجلس الأمن بداية الأسبوع الماضي، بأن يتم إغلاق الملف الذي ألمح إلى استخدامه من قبل دول غربية ضدّ النظام الذي يمثله.
ومع عودة الاهتمام الأميركي أخيراً بملف الكيميائي، يبدو أنّ واشنطن تسعى لإعادة إخراج القرار 2118 (قرار أصدره مجلس الأمن الدولي بتاريخ 27 سبتمبر 2013 وتمت الموافقة عليه بالإجماع، وهو القرار الخاص بنزع السلاح الكيميائي السوري) للتلويح به أمام دمشق، لكن يبدو أنّ ذلك سيتأخر لبضعة أشهر، حتى تكون الانتخابات الأميركية قد أفرزت رئيساً، وسيتضح لديها ما إذا كان النظام سينخرط في الحل وفقاً للقرار 2254 بعد كل الضغوط الأخيرة، من خلال مؤشر مشاركته في جلسات اللجنة الدستورية المقبلة. وفي حال أرادت الإدارة الأميركية استخدام القرار الأممي 2118، ستكون لديها ورقة ضغط قوية، تتمثل في إدانة فريق التقصي التابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في 8 إبريل/نيسان الماضي، للنظام بثلاث هجمات بالأسلحة الكيميائية وقعت في ريف حماة في مارس/آذار عام 2017.
وعلى الرغم من أنّ القرار 2118، كان بمثابة إنقاذ للنظام الذي توقع العالم نهايته بعد ارتكابه مجزرة الغوطة الشهيرة والتي ذهب ضحيتها قرابة 1400 مدني باستخدام السلاح الكيميائي، إلا أنه كذلك لا يزال يشكل كابوساً بالنسبة للنظام. إذ يقضي القرار بانضمامه لمعاهدة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية، وسحب وتفكيك ترسانته الكيميائية، وهذا ما يقول النظام إنه طبّقه، إلا أنّ المقلق بالنسبة له هو فرض عقوبات بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة في حال استخدم السلاح الكيميائي مجدداً، وفقاً للقرار الأممي.
وعلى الرغم من هذا القرار، فإنّ تقارير دولية تحدثت عن أنّ الأسد احتفظ بجزء كبير من مخزونه الكيميائي ولم يسلم إلا الجزء الأقل منه، وقد وُجهت إليه الاتهامات بعد هجمات الغوطة الكيميائية في أغسطس 2013، بشنّ عشرات الهجمات الكيميائية، في كل من ريف حماة وإدلب وحلب، وكان أفظعها مجزرتي خان شيخون في 4 إبريل من عام 2017، ودوما في الغوطة الشرقية من دمشق في 7 إبريل 2018، وأودت كل واحدة منهما بحياة أكثر من 100 شخص كلهم من المدنيين، بالإضافة إلى مئات المصابين.
وفي طريق محاسبة النظام على الهجمات الكيميائية التي استهدف بها المدنيين، استطاع المجتمع الدولي التوصل إلى القرار الأممي 2235، الصادر في أغسطس 2018، والقاضي بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة، للتحقيق وتحديد المسؤول عن الهجمات الكيميائية في سورية.
وحددت اللجنة، في وقت سابق، مسؤولية النظام عن ثلاث هجمات باستخدام غاز الكلور، كلها في إدلب (سرمين، قيمناس، تلمنس) من دون أن تتطرق إلى مجزرة الغوطة 2013 التي استخدم فيها غاز السارين. وتم تمديد مهمة اللجنة مرتين، وسط عراقيل كثيرة من قبل الروس، قبل أن ينتهي عملها بعد أن وجهت الاتهام للنظام بالوقوف وراء هجوم خان شيخون الكيميائي. وقد رفضت روسيا هذه الاتهامات، واستخدمت موسكو حق النقض الفيتو لإفشال عمل اللجنة.
وشهد شهر يوليو/تموز من العام الماضي تشكيل فريق خاص بمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية التابعة للأمم المتحدة، وعُدّ أول فريق تحقيق لديه سلطة تحديد الجهة المنفذة للهجمات الكيميائية في سورية، بالإضافة إلى سلطات تتيح له توجيه اتهامات لمنفذي الهجمات. وفي أول تقرير له مطلع إبريل من العام الحالي، حدد الفريق مسؤولية النظام عن الوقوف وراء ثلاث هجمات كيميائية باستخدام غازي السارين والكلور السامين في بلدة اللطامنة بريف حماة، ولا تزال تحقيقاته مستمرة بهجمات أخرى.
ولم يخف الرئيس الأميركي دونالد ترامب نيته التخلص من الأسد على خلفية مجزرة خان شيخون في إبريل 2017، لكنّ وزير دفاعه السابق جيمس ماتيس عارض ذلك، وهو ما يطرح، وفق مراقبين، إمكانية لجوئه في حال فوزه بالانتخابات الرئاسية إلى إعادة التفكير في محاسبة الأسد عبر الملف الكيميائي. وإلى ذلك الحين، يبدو أنّ التحركات الأميركية والغربية في هذا الملف تستهدف فرض ضغط إضافي على الأسد قبل اللجوء إلى مزيد من الحزم. وقد شرعت منظمات حقوقية سورية أخيراً في تقديم شكوى جنائية رسمية أمام مكتب المدعي العام الاتحادي الألماني ضدّ النظام نيابة عن ضحايا الهجمات الكيميائية في سورية، وتُعتبر هذه أول شكوى جنائية ضد النظام على خلفية استخدامه الأسلحة الكيميائية، وهي تتضمن تحقيقات مفصلة حول هجومي الغوطة في 21 أغسطس 2013، وخان شيخون في 4 إبريل 2017، كما تتضمّن الشكوى إثباتات بضلوع مسؤولين كبار في النظام بالهجومين.
المصدر: العربي الجديد