معهد دراسات الحرب ترجمة وتحرير: ربى خدام الجامع
يُرجّح أن تنشر روسيا قواتها البرية التقليدية في سوريا لـ تكسب نفوذاً خلال المفاوضات مع تركيا وللمشاركة في حملة عسكرية محتملة قد تشنها القوات الموالية لـ نظام الأسد، إذ تضغط كل من روسيا وتركيا على بعضهما من أجل تقديم تنازلات في المفاوضات المتعلقة بمحافظة إدلب التي تسيطر عليها فصائل المعارضة.
ورغم أنّ احتمال نشر قوات عسكرية تقليدية روسية يبقى أمراً غير مرجّح، إلا أن العديد مِن المؤشرات التي رشحت خلال الأسابيع القليلة الماضية تفيد بأن موسكو يمكن أن تستعد لذلك، وعملية نشر الجنود قد تعتبر بداية مرحلة التغيّر في المشاركة الروسية بسوريا، كما تعد تصعيداً في النزاع بين روسيا وتركيا.
تسعى تركيا وروسيا لتحقيق نفوذ من أجل وضع شروط تناسبهما لخوض جولة جديدة من المفاوضات حول مصير محافظة إدلب، مع مواصلة تجميد كل شيء يتصل بذلك. إذ لم تتمخض المفاوضات الروسية – التركية حول إدلب والتي عقدت في 16 أيلول الماضي عن أية تسوية، وبالتالي عمدت تركيا إلى تعزيز مواقعها العسكرية في تلك المحافظة، في الوقت الذي أخذت فيه روسيا ونظام الأسد بتصعيد الغارات الجوية والقصف ومحاولات التسلل على تلك المنطقة.
لذا من المرجح أن تسعى روسيا لدفع تركيا للانسحاب من أجزاء تقع جنوب إدلب حتى يتمكن نظام الأسد من شن حملة عسكرية على قوات المعارضة “السلفية-الجهادية” دون أي تدخل من قبل تركيا، ومن المحتمل أن تسعى تركيا لتحقيق مكاسب في ساحات أخرى من التنافس الروسي – التركي مثل شمال شرقي سوريا، وليبيا، والقوقاز.
إن التفوق العسكري الكبير لتركيا في إدلب يجعلها تتميز في المفاوضات على روسيا، إذ لدى القوات المسلحة التركية فرقة بحجم فوج (يضم أكثر من 20 ألف جندي) في إدلب، كما تحتفظ تركيا بعدد كبير من القوات بالوكالة تابعين لها في إدلب، يضاف إلى ذلك أن المجموعات “السلفية-الجهادية” الموجودة في إدلب لا بدّ أن تقاوم أي تقدم لنظام الأسد بالاعتماد على نفسها، وهذا يعني أن القوات المسلحة التركية تتمتع بإمكانيات أكبر مما تمتلكه قوات النظام الذي تدعمها روسيا، فإمكانيات طائرات الاستطلاع التركية مثلاً قضت على قوات النظام في اشتباكات محدودة وقعت في السابق. كما تتفوق تركيا عسكرياً ولكن بصورة نسبية على روسيا بفضل موقفها الدفاعي في إدلب، فهي تسيطر على الحدود الداخلية في المنطقة، كما أن تركيا دولة مجاورة لسوريا.
لذلك مِن غير المحتمل أن يكون لروسيا أو تركيا أي رغبة بقيام مواجهة عسكرية كبرى بينهما في إدلب، إذ تخشى روسيا من الخسائر التي قد تتعرض لها قطعات النظام والتي استثمرت فيها الكثير، مثل “الفوج 25” للمهمات الخاصة (والذي يعرف باسم قوات النمر) والفيلق الخامس. كما قد تتعرض القوات التركية والتي تدعمها تركيا لخسائر أيضاً، حتى ولو أتى ذلك بنسبة أقل، وذلك على يد مدفعية جيش النظام وإمكانياته الجوية. وقد تخاطر تركيا في تلك الحالة بخسارتها للأرض في إدلب، والأهم من ذلك أنها ستخسر أية تنازلات تقدمها روسيا على أمل تحقيق شيء خلال المفاوضات. ولهذا سيكون الغرض الأساسي من نشر وحدة تقليدية من الجيش الروسي هو إرغام تركيا على تقديم تنازلات في المفاوضات بدلاً من المشاركة في العملية القتالية، بالرغم من أن تلك الوحدة قد تكون على استعداد لخوض القتال عند الضرورة.
وثمة مؤشرات محدودة وغير نهائية لكنها جديرة بالذكر هنا حول تعثر استعداد روسيا لنشر قوات تقليدية في سوريا، إذ أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في 21 أيلول/سبتمبر الماضي بأنه “لا حاجة لـ جيش النظام وحلفائه أن يقوموا بشن أي هجوم على إدلب، لأن ما يجب القيام به هو استهداف مواقع الإرهابيين والقضاء على آخر معقل لهم على الأراضي السورية”، وهنا يأتي التخلي الواضح عن العملية العسكرية في الجملة الأولى ليناقض اللغة المشفرة في الجملة الثانية، إذ أكد لافروف بأن تركيا مسؤولة بشكل أساسي عن مهمة مكافحة الإرهاب في إدلب، وقد سبق وأن اتهم تركيا بعدم إنجاز مهماتها المتمثلة بمحاربة الإرهاب. وقد بررت موسكو الحملات العسكرية السابقة التي شنتها القوات الموالية للنظام على إدلب بأنها عمليات لمكافحة الإرهاب.
فمن بين الأهداف الأساسية المعلنة لروسيا في التدريبات العسكرية بالقوقاز والتي جرت ما بين 21-26 من شهر أيلول/سبتمبر ورد: “ممارسة عمليات مشتركة لتحديد موقع النزاعات المسلحة وحلها فيما يتصل بعملية مكافحة الإرهاب… ضمن الجهة الاستراتيجية الواقعة في الجنوب الغربي”.
وحتى اليوم بقيت عمليات نشر الجنود الروس تقتصر على عناصر يتم فرزها إلى المقارّ، والقطعات الجوية، مع عدد قليل من القوات الخاصة الروسية والشرطة العسكرية والمتعهدين العسكريين الروس من القطاع الخاص، ويستثنى منها كتيبة مشاة البحرية 810 التي نشرت لإقامة قاعدة حميميم الجوية الروسية والدفاع عنها في عام 2015 وللمشاركة في عمليات عسكرية محدودة على جبهات القتال القريبة. غير أن روسيا قطعت تلك الجهود في عام 2017 بعدما لم تحقق من خلالها أية مكاسب.
هجمات كيماوية محتملة لـ روسيا ونظام الأسد
وتعتبر العمليات الاستخباراتية الروسية في سوريا والتدريبات الاستعراضية التي تعمل على تهيئة القوات لخوض حرب كيماوية بمثابة إشارة غامضة أخرى حول الخطط المحتملة لقيام روسيا بنشر قواتها التقليدية. فقد لاحظ معهد دراسات الحرب ظهور مؤشر بشكل متكرر يوحي بأن نظام الأسد يعتزم القيام بهجوم كيماوي على محافظة إدلب بمباركة روسيا. فيما أورد المركز الروسي للمصالحة في سوريا في 11-20-28 أيلول/سبتمبر وفي 12 تشرين الأول/أكتوبر دون الاستناد إلى أي دليل بأن هيئة تحرير الشام المرتبطة بتنظيم القاعدة يخطط لهجوم كيماوي هدفه التمويه في معظم أنحاء إدلب، وبالتالي انتشرت تلك المزاعم عبر مصادر إعلامية موالية للدولة الروسية والسورية. وهذه المزاعم -التي تسبق عادة أي حملة يشنها النظام كما سبقت في بعض الحالات الهجمات الكيماوية التي نفذها النظام- قد يترتب عليها عواقب وخيمة.
فقد استخدم نظام الأسد الهجمات الكيماوية لإضعاف فصائل المعارضة ولنشر الخوف في نفوس المدنيين وذلك ضمن أكثر من 300 حالة منذ بداية الحرب في سوريا، غير أن النظام لا يمتلك الإمكانيات التي تؤهله لتحريك قواته البرية قبل قيامه بنشر المواد الكيماوية. وتدعو العقيدة الروسية التي تتصل باستخدام السلاح الكيماوي إلى تنسيق العملية البرية مع الهجمات الكيماوية بشكل خاص وذلك للاستفادة من تأثير ذلك في ساحة القتال على نحو فوري ومباشر. فلقد اشتركت قطعات عسكرية روسية كثيرة في التدريبات التي جرت بمنطقة القوقاز خلال عام 2020 بالإضافة إلى التدريبات الخاطفة المتزامنة التي جرت في المقاطعة العسكرية الغربية لروسيا، حيث تدربت تلك القطعات على استخدام إمكانيات دفاعية غير معروفة والتي تضم الإمكانيات الكيماوية والبيولوجية والإشعاعية والنووية. وتدربت كتيبة مشاة ميكانيكية روسية على شن هجمات باستخدام معدات لعزل السلاح المضاد للكيماوي ويشمل ذلك الأقنعة الواقية حيث تمت تلك التدريبات في التاسع عشر من شهر أيلول/سبتمبر. كما تدربت عناصر أخرى بحجم كتيبة روسية على تحرير الغاز وتطهير الأرض والمعدات والأسلحة من التلوث وذلك في السادس عشر من تشرين الأول/أكتوبر ضمن تدريب مفاجئ لا يمت لتلك التدريبات بصلة. هذا وتقوم القوات الروسية بشكل اعتيادي بتدريبات على الإمكانيات الدفاعية الكيماوية والبيولوجية والإشعاعية والنووية، إلا أن حجم تلك التدريبات وطبيعتها هو ما يثير اهتمامنا وملاحظتنا، لاسيما عندما تقترن بعمليات استخباراتية متواصلة في سوريا.
وقد يشير آخر نشاط حركي لروسيا ولنظام الأسد إلى أن القوات الموالية للنظام تستعد للقيام بهجوم على منطقة جسر الشغور التي تعتبر مهمة بالنسبة للدفاع عن القاعدة الروسية الموجودة في منطقة الساحل. فقد استهدفت الغارات الجوية الروسية التي وقعت في 20 أيلول/سبتمبر 2020 مركز القيادة والعديد من المستودعات التي تعود لجماعة حراس الدين المتشددة والمتفرعة عن تنظيم القاعدة، إذ يحتشد مقاتلو حراس الدين بصورة أساسية حول جسر الشغور، ولهذا قام نظام الأسد بقصف نقطة المراقبة التركية القريبة من جسر الشغور في 20 من أيلول/سبتمبر. كما شنت روسيا غارات جوية على قوات معارضة “سلفية-جهادية” قرب جسر الشغور في 14 تشرين الأول/أكتوبر.
وتعتبر جسر الشغور مركز المدينة المحصن الذي يسيطر عليه “جهاديون” يهددون أمن قاعدة حميميم الجوية الروسية وكذلك “الحاضنة العلوية” التي تدعم نظام الأسد في محافظة اللاذقية، إذ تعتبر روسيا قاعدة حميميم إحدى القواعد الدائمة الثلاث التي أقامتها لها في سوريا، كما أنها تقوم حالياً بتوسيع مرافق تلك القاعدة.
هذا وقد دعمت روسيا العديد من محاولات النظام للاستيلاء على جسر الشغور منذ عام 2015 عبر المنطقة الجبلية من جنوب غرب المدينة، إلا أن قوات النظام فشلت وتكبدت خسائر بشرية كبيرة وقد طال الأمر سمعتها أيضاً. لذا بوسع القوات الروسية التقليدية التي تتمتع بإمكانيات أكبر أن تنجح حيث فشلت قوات الأسد. كما أن المكاسب التي حققتها القوات الموالية للأسد جنوبي إدلب منذ أواخر 2019 وحتى آذار/مارس 2020 حددت شروط أي هجوم على جسر الشغور من الناحية الشرقية للمدينة التي تتمتع بتضاريس أقل وعورة، إذ من هناك يمكن للقوات الموالية للنظام السيطرة على سهل الغاب ثم عبور نهر العاصي لتصل إلى المدينة. وقد أجرى معهد دراسات الحرب فيما مضى تقييماً بناء على وضع القوات الموالية للنظام، ورد فيه بأن المناطق التي تسيطر عليها المعارضة جنوب طريق “M4” الدولي، والتي تشمل منطقة سهل الغاب، تعتبر الهدف المرجح لأي حملة عسكرية قادمة قد تقوم القوات الموالية للنظام بشنها. وتوضح الخارطة أدناه مسار التقدم المحتمل:
يذكر أن نشر وحدة من القوات التقليدية الروسية في إدلب قد يغير التوازن العسكري هناك بشكل كبير كما قد يجبر تركيا على القبول بتسوية تقوم على أرباح أقل ويتم التوصل إليها عبر التفاوض. ثم إن نشر الجنود الروس قد يسمح للقوات الموالية للنظام بأن تواصل السعي لتحقيق أهداف أكثر طموحاً كما قد يدفعها ذلك لتبني طريقة عمل في الحملة العسكرية الوشيكة على إدلب في حال سمحت روسيا لقواتها بالمشاركة في القتال وكذلك في التمركز.
بيد أن نشر وحدات تقليدية في سوريا لتقوم بالمشاركة في العمليات العسكرية يبقى أمراً غير مرجح إلا أنه يمثل بداية انحراف كبير عن المسار، وذلك لأن نشر القوات التقليدية الروسية قد يقوي من موقف روسيا في سوريا ويمنح روسيا الفرصة لاختبار أفكارها العقائدية المتطورة إلى جانب إمكانياتها القتالية. إلا أن ذلك يفرض على روسيا أن تستعد لجعل سوريا الهم الأكبر لها ولتحمل المخاطر المتزايدة التي تتعرض لها قواتها هناك.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا