بينما كان فرن ابن العميد في حي المزة في دمشق يكتظ بطابور السوريين المكافحين للحصول على رغيف الخبز، كان المشاركون في مؤتمر عودة اللاجئين المنعقد في قصر المؤتمرات على بعد مئات الأمتار من هذا الطابور يدبجون بيانهم الختامي مساء الخميس.
لم يحمل البيان ما يمكن الوقوف عنده، وانما اكتفى بسرد العبارات المكررة التي تصف الصراع في سوريا من وجهة نظر النظام، باعتباره “حرباً على الإرهاب الذي تسبب بفرار الناس وتهجيرهم، وأن الحل السياسي يجب أن يقرره السوريون ويقوده بأنفسهم، وأن الغرب وغيره من القوى والدول التي رفضت المشاركة في هذا المؤتمر، إنما يريدون المتاجرة بقضية اللاجئين السوريين والاستثمار السياسي بمأساتهم”.
ولعل اللافت الوحيد في البيان هو الحديث عن “استعداد الحكومة السورية لإعادة مواطنيها إلى أرض الوطن ومواصلة جميع الجهود لتوفير عيش كريم لهم”.
تبدو العبارة الأخيرة كاريكاتورية بالفعل، لكنها لم تظهر فجأة بين سطور البيان الختامي للمؤتمر الذي اقتصر الحضور فيه على دول قليلة، بل كان واضحاً التركيز عليها من قبل إعلام ومسؤولي النظام بشكل مكثف مع انطلاق أعمال المؤتمر، من دون أن يقدموا تفسيراً واحداً لكيفية تحقيق هذه الوعود، في الوقت الذي تعجز فيه حكومة النظام عن توفير مستوى العيش الكريم لمن بقي من السوريين.
اللافت أيضاً هو التحول السريع من التهجم المستمر على من غادر البلاد وتوجيه اتهامات مختلفة له، بل وغالباً تهديدات أيضاً، إلى الدعوة الحميمة لعودته (إلى الوطن) والتعهد بتقديم كل التسهيلات والخدمات له، وهو تحول يستجيب حكماً للموقف الروسي الذي أصر على عقد هذا المؤتمر رغم كل المؤشرات على فشله.
إصرارٌ جعل المعارضة تصاب بالإرباك وهي تحاول فهم أسبابه، لذلك هربت باتجاه الاكتفاء بالسخرية منه والتقليل من أهميته، وهو ما يرفضه رئيس الهيئة السياسية في إدلب رضوان الأطرش، الذي يعتبر في تصريح ل”المدن”، أن هذا التعاطي يذكر بتعاطي الثوار والمعارضين السوريين مع مؤتمر سوتشي الذي عقد عام 2018 برعاية روسية، ليتبين لاحقاً أن الروس كانوا يخططون لأمر آخر عرفه الجميع لاحقاً، وهو تكريس مسار الاصلاح الدستوري بدل تغيير النظام من خلال اللجنة الدستورية.
وأضاف أن “ردة فعل الثورة وبعض المعارضة تجاه مؤتمر اللاجئين شبيه تماماً بردة الفعل السابقة حول مؤتمر سوتشي، لكن السؤال الأهم هو: هل ألقت روسيا بالاً لهذه الردود أم تابعت مخرجات مؤتمر سوتشي، وهل ستلقي بالاً للسخرية من مؤتمر اللاجئين أم ستتابع مقرراته ونتائجه؟”. ويتابع: “ما أخشاه أن يتم مباركة هذا المؤتمر بعد فترة قريبة وتكون بداية المباركات من اجتماع أستانة المقبل ومن بعدها الوسيط الأممي، ومن بعده الدول المتدخلة بالشأن السوري تباعاً”.
أمر يتفق معه به الكاتب السوري المعارض غياث كنعو الذي ينبه في حديث ل”المدن”، من خطورة الرغبة الروسية في التشجيع على عودة اللاجئين وفي التحريض من أجل إعادتهم، برغبتها في جعل أكبر عدد ممكن من السوريين يشاركون في الانتخابات الرئاسية القادمة المقررة صيف 2021 لإضفاء شرعية أكبر على هذه الانتخابات. ويضيف أن “الإصرار الروسي على عقد هذا المؤتمر رغم كل مؤشرات فشله ليس أمراً ساذجاً بل ينطوي على أهداف سياسية واقتصادية بكل تأكيد”.
اقتصادياً، فإن معن طلاع، الباحث الاقتصادي في مركز عمران للدراسات، يقول ل”المدن”، إن روسيا تعمل على تحويل كافة الاستحقاقات السياسية (إعادة الإعمار وعودة اللاجئين والبيئة الآمنة وما تتطلبه من تغييرات) إلى تحديات اقتصادية ينبغي على المجتمع الدولي الانخراط مع النظام لتنفيذها.
ويضيف أن “موسكو تدرك أن ملف اللاجئين يشكل ضغطاً على الدول المستقبلة، وحاولت أن تستثمر هذه النقطة ودفع هذه الدول للانخراط ببرنامجها المتعلق بعودة اللاجئين. وبعد فشل هذا البرنامج تأتي الدعوة اليوم مرة أخرى لمؤتمر للاجئين في دمشق كمحاولة تسويق سياسي للنظام، من جهة ورسائل للدول المستقبلة بقدرة موسكو على تنفيذ هذه العودة من جهة ثانية، ومن جهة أخرى فإن أي عودة للاجئين، لا سيما “النوعيين” من أصحاب رؤوس الأموال تشكل نقطة تحريك مهمة لعجلة الاقتصاد”.
ويذكّر المحلل الاقتصادي عبد الرحمن أنيس بأن “روسيا تدخلت في الحرب لحماية النظام، واليوم تدرك أنها إذا لم تدفع نحو المزيد من الجهود لاستقرار الوضع في سوريا فستكون خارج دائرة المستفيدين”. ويضيف ل”المدن”، أن “روسيا، ككل الدول التي تدخلت مباشرة في الملف السوري، لها أطماع اقتصادية، وخلال سنوات تدخلها بسطت موسكو سيطرتها على كثير من مصادر الثروة السورية، كحقول الفوسفات والموانئ البحرية والمطارات، وتتطلع إلى خطوط تجارة المواد الاساسية الواردة لسوريا، إلا أن العقوبات الأميركية حالت دون هذا، وبالتالي فهي تحاول من خلال هذا المؤتمر تجاوز هذا العائق”.
يمكن القول إن الارباك هو القاسم المشترك الذي يجمع كلاً من النظام والمعارضة في تعاطيهم مع الإصرار الروسي على عقد مؤتمر اللاجئين في دمشق، بل والتأكيد على أنه الأول وستتبعه مؤتمرات أخرى، يعزز فكرة أن لدى موسكو مخططاً متكاملاً على هذا الصعيد لا تكترث معه لردود فعل المعارضة الساخرة وصقور النظام الغاضبة.
المصدر: المدن