راكان حسين
كانت الساعة الحادية عشرة والربع.. الحادية عشر وخمس عشرة دقيقة بالتمام والكمال. فتحتُ التلفاز بلا وعي. كان الخبر موجزاً دون أي صور، يقر بوقوع ضحايا جرّاء برميل أسقطه طيران مروحي على منطقة سكنية في المزيريب جنوب سوريا.
“سنوافيكم لاحقا بالتّفاصيل المصوّرة..”
كان الخبر مهنياً بحتاً، دون أي نبرة حزن في صوت المذيع، دون أي اضطراب أو احتمال دمعة ما. ثم واصل النشرة منتقلاً إلى الخبر الآخر عن ارتفاع ملحوظ لأسعار الأسهم في إحدى البورصات.
رنّ هاتفي : البقية بحياتك.. الوالدة أعطتك عمرها، شد حيلك.
جاءني صوت أخي مخنوقاً، قال هاتين الكلمتين واختفى ..
أعطتني عمرها؟ لم أستوعب ما قاله بالضبط ، هل يعني ذلك أن عمرها صار مضافاً فوق سنين عمري؟
هواء الغرفة أخذ بالنفاذ شيئاً فشيئاً. فتحت الباب، أغلقته، لم أدرِ بالضبط ماذا أفعل . أحسست أنني قيد ضربة يد من المزيريب، وأنّ حقدي و حزني قادر على اللحاق بتلك الطائرة وإسقاطها بحجر.
صرخت بأعلى صوتي كأنني عالق في الدمار، فتجمع سكان الكامب من حولي غير مدركين للأيدي التي تمتدّ من بعيد وتخنقني.
عاودت الاتصال بأخي، ليؤكد لي الخبر بصوت يلفه شريط أسود: الكل بخير أولادك وإخوتك.
هل نحن فعلا بخير بعد موت أمي؟!
الحادية عشرة والربع في يوم الثلاثاء. هوى السرير المعدني بي في كامب بيشكا قرب العاصمة المجرية إلى ليل زلق، قوامه الصمت والخبل. توقفت ساعة غرفة الجلوس بعد إصابتها بشظية في قلبها، وتوقف نبض أمي الدافئ ، ذلك النسغ الذي يغذي وجودي بالحياة مع توقف الزمن.
الساعة الحادية عشرة والربع يقف طلاب الصف التاسع أمام سياج مدرستهم، يفتحون دفاترهم ويعيدون لآخر مرة، آخر ما قاله الأستاذ، يضحكون، ويتحدثون في لحظات هي الأصدق للتعبير عن الحياة. وعلى مقربة من مكان وقوفهم قرب البوابة، تلقي طائرة مروحية برميلاً معدنياً بطول رجل، محشواً بالمتفجرات وقطع النقد المعدني من فئة الليرة التي جمعها البنك المركزي بعد أن فقدت قيمتها.
يهوي البيت المكون من طابقين فوق رؤوس ساكنيه، ويتناثر الفتيان والكتب المدرسيّة، والضحكات. تتطاير الحقائب والأيدي التي تمسكها، وتسقط في أماكن أخرى من العالم، أماكن لا تدرك لحظة طلوع الأرواح مع تصاعد الدخان الأسود ورائحة البارود إلى سماء لا سدرة لها.
الحادية عشرة والربع، يحوم الطيران فوق البحيرة، فيستحيل ماؤها إلى قطعة من الوحل الآسن، ينسرب الماء من ثقب ما، ثم يتوارى إلى قاع لا يدركه إنسان. تطفو الأسماك فوق الوحل. تصرخ الأمهات وهن ينظرن إلى أولادهن يتناثرون كالدمى القماشية. تتفجر الأرحام كي لا يأتي طفل آخر إلى هذا العالم، وتنقطع الطرق الواصلة بين تل شهاب والمزيريب وطفس إلّا من سيارات البيك آب التي تنقل الجرحى إلى المشافي الميدانية.
الساعة الحادية عشرة والربع في المزيريب تختلف عن مواقيت مناطق أخرى في العالم. تسقط الأشلاء بعيدة عنها. تصدح الموسيقا في صالات الأوركسترا الكلاسيكية، وتعلو أصوات المكبرات في المطارات بفتح البوابة الثانية وتقف مضيفة في طائرة ستعبر المحيط ترجو المسافرين ربط أحزمتهم وتتمنى لهم رحلة سعيدة، ويجلس مسافر متوجهاً للقاء أمه وزوجته بعد خمس سنوات من العمل في بلاد أخرى مشحوناً برغبة الحديث عن سنوات غربته، بينما مكبرات مساجد المزيريب و طفس وتل شهاب تحثّ أصحاب زمر الدم النّادرة للتوجّه إلى المشافي الميدانية للتبرع بالدم.
في الحادية عشرة والربع، تمتلئ الشوارع بأقدام العابرين، وتنطلق صافرات السفن العملاقة في المضائق. تنتقل البضائع في الموانئ من سفينة إلى أخرى، وتمضي القطارات السريعة بهدوء الأفاعي بين الغابات والجبال الملتوية. وفي لقاء ما، يطل المخرج نجدت أنزور على إحدى المحطات ليقول: “لا بد من استخدام البراميل المتفجرة، لا بد لهذه الفانتازيا أن تكتمل!!”.
الحادية عشرة والربع تنبح الكلاب مذعورة، وترمي طائرة مروحية من ارتفاع سبعة آلاف متر برميلاً محشواً بالحقد فيهوي كوحش جائع يلتهم الأعمار.
الثامن عشر من شباط هو اليوم الخامس لسعد بلع. يقول جدّي إنّ خمسينية الشتاء لو بدأت بجفاف تنتهي بجفاف، غير أن شباط له طبيعة الغدر.. ها قد بدأت بموت يا جدّي! بدأت ببذر الموت وقطاف الأرواح. منذ هذه اللحظة سيغيب صوت أمي، لن ألمس يدها، لن أسمع عتابها على كثرة تدخيني وعدم اهتمامي بصحتي.
أمي التي أتسلح بدعائها أينما كنت. أنظر إلى الخلف فأراها ترتب البيت، تُعدّ لنا الإفطار في ساعات الصباح الباكر، وتطمئن على تحلّقنا حول المائدة ثم تمضي إلى نهارها. في ذات الوقت، يخرج مسؤول ليقول إن الأزمة على وشك الانتهاء، وإن الإرهابيين المتآمرين على البلاد يتساقطون تحت ضربات الجيش كالدجاج.
أمي!!.. تلك المرأة الوقورة التي لا تعرف سوى أن تفخر بأولادها.. أمي إرهابية!!
كنت جالساّ على حافة السرير، قدماي تتأرجحان في فراغ نهاية الأرض المسطحة، معلقاً بذات سماء الدخان والغبار المتراقص حول الجثث المستلقية بسلام.. طفل يمسك يد أمه وهما في طريقهما إلى المستوصف، لا يستطيع القدر الأسود فصل اليدين المتشبثتين ببعضهما.. عابرون يمضون من أمام مدرسة عين الزيتون إلى أشغالهم ، يتوقف زمنهم عند الحادية عشرة والربع، وتنتهي رحلة العمر.
في الأسبوع الفائت استهدف الطيران المروحي مدرسة ترعان أيضاً، ممّا جعل المعلمين يوقفون التدريس بشكل كامل، لكن هذا اليوم، بدأت دورة تدريبية لطلاب الصف التاسع قبيل اختبارات نصف السنة. نجح القلّة منهم قبل تقديم الامتحان بالبقاء على قيد الحياة. يد واحدة تكفي لتصل إلى سماء لا يصلها الطيران المروحي، وقدم واحدة تكفي للرقص أيضاً.
رنين الموبايل لا يتوقف. الكثير من المكالمات الفائتة، وأحياناً أجيب وأنا صامت، واقف بين زمنين، أحدهما كان لي والآخر لا أعرف ما ينتظرني فيه. أستمع إلى أصوات مألوفة: “البقاء لله” ، “الله يرحمها”، وأنا أجيب كببغاء يقف على عود رقيق ويردد أشياء لا يفهمها. الشيء الوحيد المفهوم لدي أن أمي لم تعد موجودة. صرخة الولادة بعد تسعة أشهر وسبعة وأربعين عاماً تسري في شراييني كأني كنت في رحمها الدافئ لحظة الانفجار وخرجت إلى عالم بارد، صقيع يمتد إلى أطرافي فترتعد أوصالي، وصرخة حادّة كنصال الشظايا تفجر حنجرتي. الغيبوبة تستمر وقوافل من النمل تسري تحت جلدي، فأتحوّل إلى كائن آخر يزحف بين أشواك الأرض ويلونها خلفه بلون الدم.. كائن يمضي في هذا العالم دون أمّ يتعكز على دعائها.
الوقت يمضي بطيئا كأفعى خبيثة، ما الذي أنتظره؟ أحرق السجائر واحدة تلو الأخرى وأنظر إلى من حولي بنظرات باردة كنظرة الأعمى.
رن الموبايل. أجبت كأني أنتظر معجزة تبشرّني بأن أمي استيقظت من الموت، فأمي لا تموت. ربّما تصاب، تفقد وعيها لكن من المحال أن تذهب دون أن تجمعنا حول سريرها وتتلو وصيتها علينا.
– أخي راكان أتمنى أن تتماسك قليلاً.
بدت لي الكلمة كعزاء بارد يتلوها صاحب عزاء على أخيه.
ثم أكمل: حورية أصيبت أيضاً و…
– حورية زوجتي؟ كيف؟ هل كانت تسعف المصابين؟ هل هي بخير الآن؟
– لقد كانت لحظة سقوط البرميل ذاهبة لتودّع صديقاتها في المستوصف قبل سفرها إليك..
للأسف وجدناها مع من قضوا في مشفى طفس الميداني. لم يتمكن أحد من تحديد هويتها غير ابنك حازم. البقية في حياتك..
انهارت السماء دفعة واحدة كسقف إسمنتي فوق رأسي. أيّ بركان هذا الذي يطلع من أعماق الخوف فجأة، ويحوّلني إلى جلدٍ ميت، يتشابك مع الشياطين الهاطلة من السماء ثم يقذف حممه بوجهي! أين تلك الزلازل التي وعدت بنهاية هذه الأرض ومن عليها؟!
ليس هناك وقت ليمر. لا وقت لدفن الموتى أو لخيام العزاء، فالبشر ما زالوا في الكهف هناك، يأكلون لحم بعضهم حين يغفلون قليلاً.. وحوش آدمية تستطيب القتل والدم.
هواء الغرفة، هواء المدينة، هواء العالم، لا يكفي ليملأ رئتي المخترقة. يا رب القهر! هذا الهواء يخنقني!.. أي مشاعر حزن تلك التي تقبل القسمة على عالمين، على سيدتين من زهر وقرنفل، وأنا غارق حتى أذنيّ في وحل ينزح بي نحو جزيرتين ثم يتحول إلى صخور صلدة شيئاً فشيئاً، يحطم أشرعتي ويشلّ حركتي إلى الأبد.
على شاشة هاتفي خمس مكالمات فائتة منك!.. عاودت الاتصال في تمام الحادية عشر والربع دون جدوى، ثم كتبت لك رسالة لم تقرئيها بعد. مدي يدك إلى هاتفك المصاب لعل الحياة تعود إليه مرة أخرى، ويزول الموت. لم أكن أعرف أنها طائر النهاية يحوم فوقنا .. تلك النهاية التي ستودي بما تبقى من العمر إلى أتون اللوعة والتساؤل ماذا أردت أن تقولي ؟!..
أهكذا تكون النهاية يا رفيقة العمر!؟.. لم يكن يجدر بك الموت هكذا، فالحياة تليق بك أكثر. وعدتني باللحاق بي أنت والأولاد لكنك حنثت وعدك ومتّ. أين مرافئك التي سترسو بها قواربي بعد هذا الضياع؟ فيما عيناي تتطاولان إلى زهور حدائقك والأيّام المفعمة بالجمال التي قضيناها.. كنت سأحكي لك آلاف الحكايات عن المدن والبحار ومغامرات زوجك المجنونة، وعن الطرق التي انتظرتك بها ولم تأتي. لا داع للغيرة فأنت تظلين كما أنت، وردتي وكتابي، والقمر الذي ألامسه في محيط وجهك وأنا العاشق الذي لا يهزم …
أرجوك لا تغضبي! فأنا أقول هذا العتب القاسي بسبب الحب، الحب الذي تتعفن الحياة من دونه. هل حقاً ما يحصل حقيقة ؟ أم أنني أهذي وأواصل المنام صاحياً..
المصدر: