كميل الطويل
تشهد الحروب والنزاعات الأهلية، في أحيان كثيرة، حروباً ونزاعات أهلية «مصغّرة»، أي بين الأطراف التي تقاتل في صف واحد ضد «الأعداء» المفترضين. حصل هذا، مثلاً، بين الأحزاب المسيحية خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 – 1990). تقاتل حزبا «الكتائب» و«الأحرار»، المسيحيان، قتالاً دامياً فيما يُعرف بمعارك «توحيد البندقية» التي انتهت بهزيمة «نمور الأحرار»، الجناح المسلح لهذا الحزب، وقيام «القوات اللبنانية».
في النزاع الأفغاني، قاتلت فصائل المجاهدين الحكم الشيوعي في كابل وداعميه الروس. لكن ما إن تحقق الانتصار للمجاهدين حتى انقضّوا على بعضهم بعضاً، عام 1992، محولين كابل إلى أنقاض. انتهت حروبهم هذه فقط عندما جاءت «طالبان» وابتلعتهم جميعاً، أو كادت.
أما في الجزائر، فقد ظهرت في تسعينات القرن الماضي عشرات الجماعات المسلحة التي قاتلت نظام الحكم بهدف قلبه وإقامة «حكومة إسلامية» في مكانه، لكنها خاضت في الوقت ذاته الذي كانت تقاتل فيه الجيش الجزائري قتالاً دامياً فيما بينها بهدف «توحيد الراية». ساعد النزاع «الأهلي» بين المجموعات الإسلامية قوات الأمن الجزائرية على استعادة المبادرة وإلحاق الهزيمة بها كلها.
مردّ هذه المقدمة طرح السؤال الآتي: ما نوع العلاقة المتصوَّرة في السنوات المقبلة بين التنظيمين المتنافسين «داعش» و«القاعدة»؟
ينتمي هذان التنظيمان، بحسب ما هو واضح من أدبياتهما، إلى المدرسة الآيديولوجية ذاتها، وإن كان «داعش» نتاج مرحلة لاحقة لمرحلة نشوء «القاعدة».
فالأول نتج في بيئة الغزو الأميركي للعراق، بعد عام 2003. بينما فكرة «القاعدة» نشأت في أواخر الثمانينات في أفغانستان، في بيئة مقاومة «الجيش الأحمر» والشيوعيين، ثم تطورت في سنوات التسعينات من خلال «اندماج» تنظيم «الجهاد» المصري بـ«القاعدة»، وإنشاء ما يُعرف بـ«قاعدة الجهاد». ورغم أن هذا التنظيم الأخير بقي «متعدد الجنسيات»، فإن المصريين شكّلوا، وما زالوا، عنصراً مهيمناً على قيادته وكوادره الأساسية.
وفي واقع الأمر، لم يحدث الشقاق بين «داعش» و«القاعدة» سوى بعد اندلاع النزاع الأهلي السوري، بعد عام 2011. فحتى ذلك التاريخ، كان تنظيم «القاعدة» في بلاد الرافدين يشكّل جزءاً من تنظيم فضفاض أُطلق عليه «الدولة الإسلامية في العراق».
وجاء ذلك نتيجة للصراعات التي نشبت بين فرع «القاعدة» العراقي بقيادة الأردني أبو مصعب الزرقاوي وفصائل سنيّة عديدة كانت تقاتل الأميركيين باعتبارهم محتلين، لكنها لم ترضَ بالخضوع لإملاءات القيادي الأردني الذي أراد فرض هيمنة تنظيمه على جميع الفصائل العراقية. وكما هو معروف، دفعت تصرفات الزرقاوي بالعديد من الجماعات السنية إلى تفضيل العمل مع الأميركيين والحكومة العراقية عوض الانخراط تحت لواء جماعة تقوم بتصرفات يمكن أن تجر البلاد إلى حرب أهلية على خطوط مذهبية، بالإضافة إلى التشاحن الداخلي داخل المكوّن السنّي العراقي ورموزه العشائرية.
ساعدت جماعات «المقاومة» السنيّة (التي باتت تُعرف بـ«الصحوات») في إلحاق الهزيمة بـ«القاعدة»، فاضطر هذا التنظيم إلى «الابتعاد عن الواجهة» وإعطاء القيادة للعراقيين أنفسهم بحكم أنهم أدرى بحساسيات بلدهم، بينما أخذ غير العراقيين مقعداً خلفياً وراء «أهل البلد».
وهكذا جاء بعد الأردني الزرقاوي الذي قُتل عام 2006. قائد أجنبي آخر لفرع «القاعدة» هو أبو الحسن المهاجر (أبو أيوب المصري). لكن القيادة كانت عراقية وباسم عراقي: «الدولة الإسلامية في العراق»، بقيادة أبو عمر البغدادي، ثم، بعد مقتله، أبو بكر البغدادي. وعندما اندلع النزاع السوري عقب الاحتجاجات التي ثارت ضد حكم الرئيس بشار الأسد عام 2011، سارع أبو بكر البغدادي إلى إرسال السوري أبو محمد الجولاني، قيادي «القاعدة» الذي يعمل تحت إمرته في إطار «الدولة الإسلامية في العراق»، إلى بلده سوريا لتنظيم العمل المسلح ضد النظام.
وكما بات معروفاً، تسبب النزاع السوري في «الطلاق» بين البغدادي والجولاني، إذ اعتبر الأول أن الثاني ما زال يعمل تحت إمرته في سوريا، وأنه بالتالي خاضع لـ«الدولة» التي تحولت عام 2013 إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بعد انسحاب قوات النظام السوري من النقاط الحدودية مع العراق وإعلان البغدادي إزالة «حدود سايكس بيكو» بين البلدين.
لكن الجولاني «تمرد» على قائده العراقي، بحسب ما يقول مناصرو الأخير، مستعيناً بالقيادة العامة لـ«القاعدة» التي كانت آنذاك قد باتت تحت قيادة الدكتور أيمن الظواهري، بعد قتل الأميركيين زعيم هذا التنظيم أسامة بن لادن في أبوت آباد عام 2011.
لم يُظهر مقاتلو البغدادي رحمة بمناوئيهم، على جميع مشاربهم، سواء كانوا جنوداً في قوات حكومية في العراق وسوريا، أو مدنيين يُنظر إليهم بوصفهم كفاراً أو مرتدين، أو حتى مقاتلين ينتمون إلى تنظيمات إسلامية لا تبايع تنظيم «الدولة». ففتكوا بهم فتكاً أينما تمكنوا منهم. قطع رؤوس هنا. سبي واسترقاق هناك. سيارات مفخخة وانتحاريون في كل مكان.
حاولت قيادة «القاعدة» تفادي مواجهة مع البغدادي، فأرسلت بعضاً من أبرز قادتها إلى سوريا لحل الخلاف مع تنظيمه أو تقوية الجولاني بمواجهته في حال لم يكن في الإمكان ردم الهوة بينهما. لكن العراقي لم يغفر للسوري أنه «خان البيعة»، في رأيه، بتمرده عليه عندما انتقل إلى سوريا، وأسس «جبهة النصرة»، كفرع مستقل لـ«القاعدة» مرتبط مباشرة بقيادتها في مناطق الحدود الأفغانية – الباكستانية، وليست خاضعة للقادة العراقيين في تنظيم «الدولة».
على أرض الواقع، ابتلع «داعش» فرع «القاعدة» السوري في كل مكان وطئت فيه أقدامه، إلا أن بدء التحالف الدولي، بقيادة الولايات المتحدة، عملياته ضد تنظيم البغدادي، في سبتمبر (أيلول) 2014، سمح للجولاني بالتقاط أنفاسه وإعادة بناء «جبهة النصرة» التي انحصر نشاطها في مناطق شمال غربي سوريا، وهي المنطقة الوحيدة التي لم يتمكن فيها مقاتلو البغدادي من توسيع نطاق سيطرتهم.
لكن الجولاني هنا لم يشذ عن قاعدة البغدادي نفسه، فبدأ حروباً «أهلية» مصغّرة ضد تنظيمات إسلامية متشددة تنشط في مناطق نشاطه لكنها لا تخضع لقيادته.
وقد تمكن زعيم «جبهة النصرة»، بالقوة أحياناً وبالحوار أحياناً أخرى، من تصفية معظم الجماعات المسلحة التي كانت تقاتل النظام السوري في شكل مستقل. لكن بعضها نجا من هيمنته بالعمل مباشرة تحت إشراف جيش تركيا واستخباراتها بعد دخولها العسكري إلى مناطق واسعة من شمال غربي سوريا (إدلب واللاذقية) وشمالها (حلب) وشمالها الشرقي (الرقة).
مع هزيمة «داعش» عسكرياً في سوريا، بخسارة معقله الأخير في الباغوز بريف دير الزور في ربيع 2019، ثم مقتل البغدادي نفسه بغارة أميركية في ريف إدلب، في خريف العام ذاته، انتهت عملياً المواجهة بين «القاعدة» و«داعش»، بتلاشي التنظيم الأخير، باستثناء بعض خلاياه التي تحاول إعادة بناء نفسها تحت قيادة زعيم «داعش» الجديد أبو إبراهيم القرشي، لكنها ما زالت من الضعف بحيث لا تشكل تهديداً جدياً لأي من خصومها، سواء من النظام السوري أو «هيئة تحرير الشام» التي نشأت كوريث لـ«جبهة النصرة» بعدما قرر الجولاني فك ارتباطه بـ«القاعدة».
أدى انهيار «داعش» في سوريا إلى تلافي استمرار المواجهة المسلحة بينه وبين «القاعدة»، لكن ذلك لم ينسحب على فروع «داعش» الأخرى حول العالم التي بقيت على ولائها لزعيمه الجديد.
وتتباهى إصدارات «داعش» المختلفة حالياً بهجمات يشنها مقاتلو التنظيم ضد من يصفهم التنظيم الإرهابي بـ«الكفار والمرتدين» في مناطق انتشار فروعه، مثل الساحل الأفريقي، واليمن، والصومال، وأفغانستان. لكن المتابع لهذه الإصدارات يلحظ أيضاً، وفي شكل مستمر، إعلانات عن مواجهات تحصل بين عناصر «داعش» ومقاتلي «القاعدة»، خصوصاً في دول الساحل الأفريقي، مثل مالي وبوركينا فاسو. ففي مايو (أيار) الماضي، اتهم «داعش» فرع «القاعدة» في الساحل ممثلاً بـ«جبهة نصرة الإسلام والمسلمين»، بمهاجمة مواقعه، والتضييق على عناصره، وقطع خطوط الإمداد عنهم، بالتزامن مع هجمات تستهدفهم من قوات أفريقية تعمل بمساعدة من الجيش الفرنسي.
وقبل أسابيع، وزع «داعش» شريط فيديو يُظهر عناصره وهم يفتكون بعناصر «القاعدة» ويقتلون عناصر هذا التنظيم خلال مواجهة دامية بينهما. وبحسب نشرة «النبأ» التي يصدرها «داعش» (العدد 260. في نوفمبر «تشرين الثاني» الماضي)، فقد قتل عناصر التنظيم 76 مقاتلاً من «جبهة نصرة الإسلام والمسلمين» خلال الشهور الثلاثة الماضية، بينهم 30 في كمين واحد. وفي 16 ديسمبر (كانون الأول) الجاري، وزّع «داعش» شريط فيديو توثيقياً وصف فيه عناصر حركة «الشباب»، فرع «القاعدة» في شرق أفريقيا، بأنهم «أعداء الجهاد الحقيقي». كما حملت إصدارات «داعش» إعلانات مماثلة عن هجمات تستهدف «القاعدة» في اليمن، وأخرى تستهدف «طالبان» في أفغانستان.
ولا شك أن هذه «الحروب الأهلية» الصغيرة بين «داعش» و«القاعدة» لديها قابلية الاتساع، كما أن لديها قابلية الانحسار. ولعل ما يتحكم بهذه القابلية حالياً، اتساعاً أو انحساراً، هو أن كلا التنظيمين في حال ضعف، لا يسمح لهما بخوض مواجهة واسعة بهدف فرض انتصار طرف على الآخر ونجاحه بالتالي في «توحيد الراية»، وهو أمر حاولت أن تفعله «الجماعة الإسلامية المسلحة» في الجزائر في تسعينات القرن الماضي، لكنها فشلت به. كما أن هناك عنصراً آخر يتحكم بميزان القوى بين «داعش» و«القاعدة» حالياً، وهو ميزان لم يعد يميل، كما في الماضي، لمصلحة الطرف الأول. ففي حين كان بإمكان «داعش»، أيام قيادة البغدادي، التباهي بأنه يقود «دولة»، بحكم سيطرته على مناطق واسعة من سوريا والعراق، بينما تنظيم «القاعدة» لا يعدو عن كونه جماعة مسلحة لا تحكم «دولة» ولا حتى «إمارة»، بل تخضع لإمرة «أصحاب الأرض»، كـ«طالبان» في أفغانستان.
أما الآن، في عهد أبو إبراهيم القرشي، خليفة البغدادي، فقد بات «داعش» مساوياً فعلياً لـ«قاعدة» بحكم أن «دولته» المزعومة اختفت عن الخريطة وبات بالتالي مجرد جماعة مسلحة… رغم أن فروعه ما زالت تتصرف وكأن «دولة داعش» ما زالت «باقية وتتمدد»، بحسب ما دأب على ترديده قادة تنظيم البغدادي أيام ذروة نفوذهم.
وهكذا فإن التوقع المنطقي للعلاقة بين التنظيمين في السنوات المقبلة هو بقاء التنافس بينهما في شن هجمات إرهابية حول العالم، وفي الوقت ذاته مواصلة «الحروب الأهلية المصغرة» بين فروعهما، في حال استمرار تعذر الوصول إلى توافق بين قيادتيهما.
المصدر: الشرق الأوسط