محمَّد أمين الشّامي
في حديثه لقناة Open TV في ذكرى ما يدعى بحرب الاستقلال اليونانية، صرَّح إيرونيموس، رئيس أساقفة اليونان، بحسب التَّرجمة الَّتي وصلتنا، بما يلي: الإسلام ليس ديناً بل حزب سياسي وطموح سياسي. وأتباع الإسلام أهل حرب وتوسعيون. هذه خصوصية الإسلام، وتعاليم محمد تدعو إلى هذا”. انتهى الاقتباس. ومع أنّي لا أجد ضرورة للرَّد على هذه الادِّعاءات، لكنَّي سأتناول بالتَّفنيد النِّقاط الَّتي أثارها هذا الاقتباس.
بداية، ادَّعى الرَّجل أنَّ الإسلام ليس ديناً. فما هو تعريف االدّين؟ وما هي مميِّزاته؟ وعلى أيِّ أسس يقوم؟ هذا إذا أردنا وضع مفهوم الدّين في ميزان العلم.
الدّين هو مجموع التَّعاليم المقدَّسة و/أو التشَّريعات الصَّادرة عن مصدر إلهي، أو مصدر بشري ذي مكانة عاليّة تخوِّله البحث في أمور الدّين والاجتهاد فيه.
وبحسب مصادر غير إسلاميَّة ولا إسلامويَّة، فللدّين مميِّزات، منها:
1-الإيمان بوجود قوَّة عظيمة أو عقل سامي أو إله خالق.
2-التَّمييز بين عالم الأرواح وعالم المادّة.
3-وجود طقوس عباديّة يقصد منها تبجيل الذّات الإلهيّة.
4-وجود تشريعات تشمل الأخلاق والأحكام الَّتي يجب اتِّباعها من قبل البشر.
5-الصَّلاة كشكل من أشكال الاتِّصال بالله والخضوع له.
6-رؤية كونيّة تشرح كيفية خلق العالم وتركيب السماوات والأرض وآليّة الثّواب والعقاب. أو العلاقة بين الإنسان والكون والحياة.
7-مبادئ شرعيّة لتنظيم حياة المؤمن وفقاً للرّؤية الكونيّة الَّتي يقدِّمها هذا الدّين.
وللدِّين أسس يقوم عليها، بحسب نفس المصدر، وهي:
أوَّلاً: المؤسِّس: الشَّخصيّة الَّتي أسَّست أو أوحي إليها بالكتاب المقدَس والأوامر الإلهيّة.
ثانياً: اسم الدِّيانة: بحسب اسم المعتقد أو بحسب اسم منشئها أو المكان الَّذي خرجت منه.
ثالثاً: الكتاب المقدَّس: ويضم كلَّ ما تتلَّق به الدِّيانة من أركان وفروض وعقيدة وسلوكيّات وأخلاقيّات وتشريعات واجتماعيّات وتقويم وأعياد وعبادات ومعاملات وهو إمَّا أن يكون مؤلَّفاً مثل “أفستا” عند الزرادشتية أو “فيدا” عند الهندوس، أو موحى به كالقرآن.
رابعاً: التَّقويم: الَّذي يذكر مواعيد الأعياد والصِّيام والحج.
خامساً: اللَّغة الَّتي أنزل بها أو الَّتي تتمُّ بها الشَّعائر.
دون الدُّخول في التَّفاصيل، لو أردنا تطبيق ما تمَّ ذكره على الإسلام وقارنَّاه بغيره اعتماداً على نفس الميزان والمعيار، لربَّما اكتشفنا أموراً قد لا تعجب السَّيِّد إيرونيموس مثل البند الخامس من الأسس على سبيل التَّعميم لا الحصر، أو لربَّما يتفاجأ أنَّ الإسلام هو الدّين، أي الدَّينونة والخضوع لله الواحد، أي العقيدة، وهو ما أرسل به كلُّ الرُّسل، والباقي مجرَّد شرائع لا أكثر، أي أحكام سلوكية آنية على النّاس الأخذ بها لأنَّها مرتبطة بمصالحهم وتتبدَّل بتبدُّلها بحسب الزَّمان والمكان، بناء على البندين الرّابع والسّابع من المميِّزات.
ثمَّ، يقول الرَّجل إنَّ الإسلام حزب سياسي وطموح سياسي. ويبدو أنَّ الأسقف خلط بين مفاهيم الدِّين والطَّائفة والطَّائفيّة الَّتي هي نهج سياسي أو سلوك أو ممارسة تعتمده طائفة ما لفرض هيمنتها السِّياسيّة والتعصُّبيّة على الطَّوائف الأخرى في مجتمع ما، أي تستخدم الدّين كوسيلة لتحقيق أهداف دنيويَّة.
أمَّا أنَّ الإسلام حزب سياسي وطموح سياسي فأظنُّه جافى الحقيقة وجانب الفهم في طرحه. ويبدو أنَّه تابع استناده الهش إلى الخلط بين الدّين والطّائفة الَّذي أشرنا إليه. على كلٍّ، وردّاً على هذا نقول إنَّ الحزب، أيُّ حزب، يمكن أن يضمَّ في عضويَّته من ينتمون إلى طوائف أو أديان أو معتقدات مختلفة لكنَّهم قبلوا برنامجه وتقبَّلوا أهدافه فانخرطوا في صفوفه. ويمكن أن يتقاطع مفهوما الحزب والطَّائفة في نقاط أهمُّها النَّزعة التَّعصُّبيّة والولاء الأعمى أحياناً. فإن كان الحزب يعتمد مرجعيّة طائفيَّة، أي عصبيَّة وتقديم الطّائفة على الأمّة، فهذا لا يقبله الإسلام بالمناسبة نظراً لضرره وخطره.
وتبقى جزئيّة الطُّموح السِّياسي في كلام الأسقف عن الإسلام، وهنا أيضاً جانب الطَّرح التَّوفيق. فلو كان الإسلام طموحاً بذاته لانقضى الأمر بانتهاء الطُّموح، تحقيقاً أو انقطاعاً، أو بانتهاء صاحبه. وأمّا أنَّه وسيلة لتحقيق طموح مثل القيادة فهذا يعني انتهاء تأثيره ساعة تحقيق الغاية، والأمران لم يحدثا. فإن هو أراد التَّلميح إلى تعبير الإسلامويَّة الدّارج الآن والَّذي يشير إلى الإسلام السِّياسي في مفهومنا المعاصر فهو أيضاً طرح معرفة مبتورة لا تصلح للتَّعميم. فلو أنَّه اطَّلع على الإسلام حقاً وفهم دوره صدقاً لما أوقع نفسه في هذا الإشكال، ولأدرك أنَّ الإسلام أسلوب حياة بكلِّ أوجهها، وليس وقفاً على وجه واحد منها. وهذه نقطة قد تثير تساؤلات عند كثيرين قد نناقشها في مقالات أخرى. وأمَّا إذا كان يشير إلى موضوع الأحزاب الإسلاميّة فهناك بالمقابل أحزاب مسيحيَّة أوروبية، ولا يمنع بالتّالي ظهور مثل هذه الأحزاب طالما أنَّ هدفها أن تخدم الأمَّة والوطن.
نعود إلى مقولة الأسقف ونتابع عناصرها. يقول: وأتباع الإسلام أهل حرب وتوسعيون. ولن أتطرَّق في تفنيدي هنا إلى الأمر الإلهي للمسلمين بالجهاد كي لا أتَّهم بالاعتماد على الغيبي في مقارعة الوقائع الملموسة. لكنّي أقول لو كان أتباع الإسلام كما قال لما وجدوا وقتاً لتشييد حضارة يشهد بعظمتها العدو قبل الصَّديق، ولما بنوا دولة يشهد بعدلها الجاحد قبل المؤمن، ولما تركوا خلفهم إرثاً يرفع لرفعته القبَّعة الأغراب قبل الأتباع. ولا ننكر هنا وجود مطبّات وحفر في المسيرة الزَّمنيّة لهذه الدَولة، لكنَّنا نتحدَّث عن المجمل. ولا ضرورة لتذكيره بما فعلت الأمم الأخرى بالمسلمين وبغيرهم حين سنحت لهم الفرصة كي يرثوهم وغيرهم في قيادة البشر. وله أن يسأل الأندلس وتاريخها ومن تبقّى من أهلها عمّا جرى لهم بعد أفول شمس الإسلام عنها. أو إذا أراد، فليسأل من تبقّى من الهنود الحمر عمّا حدث لأسلافهم على يد المستوطنين لأرضهم، وهم من غير المسلمين. أو فليتفضَل إلى الهند الآن ويسأل عمّا يحدث للمسلمين على يد الهندوس فيها.
فإذا علمنا كلَّ هذا، وهذا غيض من فيض، أدركنا أنَّ الرَّجل يهرف بما لا يعرف ولا يقول ما يقول إلّا من باب التَّهييج الشُّعوبي أو إثارة النَّعرات الدّينيَّة ويورد كلَّ هذا من بوّابة السِّياسة في وقت يحتاج فيه البشر أكثر وأكثر إلى التَّلاحم والتَّعاضد لمواجهة الكوارث المحيقة بهم، وها هو فيروس كورونا يفتك بالجميع دون تمييز لعرق أو دين والكلُّ يقف أمامه مستسلماً.
فهل ندرج ادِّعاء هذا الأسقف تحت بند الإسلاموفوبيا الَّتي أجَّج نيرانها شعبوي أهوج اسمه ترامب وأقرانه في العالم؟ أم أنَّه امتداد لحقد ذي خلفيّة تاريخيّة سياسيّة إذا ما أخذنا بعين الاعتبار المناسبة الَّتي ذكر فيها؟ في الحالين هو حديث منكر، وصدوره عن مرجعيّة دينيّة بهذا الثِّقل لن يخدم بحال من الأحوال أحداً على الضِّفَّتين، كما لن يؤثِّر بقليل أو كثير على الإسلام كدين وعلى مكانة الحضارة الإسلاميَّة السّامية ولا على أثر التُّراث الإسلامي في الثَّقافة الإنسانيّة. لكنَّه سيحتاج بالتَّأكيد من العقلاء والمثقَّفين المسيحيين إلى وقفة مساءلة ومراجعة عميقة ونقد أصيل لأنَّه يضرُّ بادِّعاءات بنيت عليها مدنيّاتهم ويسقط كثيراً من الواجهة الَّتي عملوا لقرون على تلميعها لاجتذاب الآخرين إليها لا سيَّما بعد الهزّات العنيفة الَّتي تعرَّضت لها مفاهيم الدّيمقراطيَّة وحريَّة المعتقد وحرِّيّة التَّعبير وفصل الدّين عن السِّياسة في الآونة الأخيرة.