علي محمد شريف
كنت تنشد الفوز بروحك وجسدك، برهةٌ من قلقٍ وخوف أحرقت كلّ الجسور إلى ذاكرتك، عطلت محاكمتك لأوّليّاتك ودفعت بعلاقتك مع الأشياء لحسابات الربح والخسارة، لا معنى للزمن ولا مكان للعاطفة في سلم النجاة، كلّ شيء يُعوّض والأولوية الآن لما خفّ وزنه وغلا ثمنه، هكذا لقنتك غريزيّتك المهيمنة، وأوهمت عقلك المعطّل بعودة قريبة مظفرة. ستنجو وتنتصر بفرارك، ستعوّض ما خسرته وتستبدل أشياءك المدمّرة بالأجمل والأغلى. هل فكرت حقّاً بما هو أجمل وأغلى ممّا فقدت؟ هل نجوت حقاً وهل ستنتصر؟ ثمّة ما يستحيل على الإجابة المبسطة ولعلّه لا جواب على الحقيقة.
هبها، تلك الأشياء، حصاناً خشبياً يتأرجح تحت مقعد طفلك، أريكة تلبي رغبة ملحة بالراحة والاسترخاء، مكتبة زاخرة ومكتباً أنيقاً وصورة مبتسمة للعائلة حالت ألوانها، مذياعاً عتيقاً تتباهى بإرثه وبجودة صندله وبراعة صنعته، مجمراً ودلالاً مزركشة مشغولة من النحاس الأحمر، سجادة مطرزة من الصوف البلديّ، أو لعلّها مقاعد الزان الموشحة بالمخمل المذهّب وشجرة نارنج تظلل النافورة الحجرية المزخرفة في حديقة البيت. كم هي كثيرة ومتنوعة أشياؤك التي خلفتها وراءك حين طرقت باب الحرية فولجت جحيم التشرّد والنزوح هرباً من موت وشيك.
كم هي بائسة أشياؤك التي هجرتها وتركتها عاجزة ومقعدة، تصارع قدرها المتربص بها بين مخالب الوحوش ويباس الغياب. الأشياء أيضاً تحزن وتغضب، وقد تتمرّد. ترفض أن تتقلص أو تتآكل، أن تبقى هكذا عارية مهملة ومتروكة للفناء. حيث تبقى منبوذة وحدها ستفكر حتماً بشيء ما. لن تكفّ عن التململ ولن تتردّد في البحث عما يشعرها بمعنى وجودها، وبأهميتها لدى أحدٍ ما يشاركها عالمها الصغير، حياة الأشياء هي بين الكائنات الحيّة وحين تلامسها حواس الأحياء، نعم هي تولد بين يدي مبدعها لكنها تكتمل وتحيا لحظة مغادرتها معرضها إلى من أرادها رفيقة وشريكة في عالمه المؤنسن بوجوده.
حوار صامت سيدور فيما بينها وبين أقرانها المركونة والمهجورة حولها، وستعقد الأشياء صداقات معلنة وأخرى خفية مع كلّ من تصادفه ويطوف حولها أو يتسلل إليها:
– لن نستسلم للعثّ الزاحف في أنحائنا، ستقول الأشياء للشمس المتسللة أوان الغروب، وتضيف برجاء: تحسسي ظلمة روحنا أيتها المشعة بالدفء، بدّدي عتمة قلبنا، نحتاج وجودك أكثر فابقي مزيداً من الوقت بيننا، أن تتشقق جلودنا بسياطك أيتها الشمس أهون علينا من أن نتعفّن.
وستهمس الأشياء في أذن الهواء أن مرّ بنا، انزع عن كاهلنا قناع الغبار، تخلّلنا وتغلغل بين مفاصلنا، زحزح جسدنا المخدّر عن هذا البلاط الرطب، احملنا برفقٍ وطر بنا، مكاننا هناك مع من منحنا الجذور والحبّ، أرواحنا المتشظية أيضاً هناك حيث تتشعب الدروب وتتكسر، والسراب يفضي إلى السراب، لا بأس لو أنك رميت بنا في أية بقعة يملؤها الصخب، إلى حيث ثمّة حياة تحتاج إلى وجودنا الطارئ. إن لم تستطع فلتكن عاصفاً أيها الهواء، كن إعصاراً ينسف الجدران الرخوة للأمل ويحطم قضبان الحلم المخاتل، لا شيء يدعو لانتظارنا نحن الأشياء، بات صبرنا وجبة شهيّة للعثّ والقرّاد، وغدا صمتنا صديداً يفتّت ما تبقى عزيمتنا، المرايا تتقشّر فضتها وتشفّ أكثر عن عجزنا وكساح إرادتنا، وعن سوادٍ فولاذيّ صلب لا آخِر لقدرته.
ستعود أيها السوريّ. ستعود ولن تجد من تعتذر إليه، لن ترى ماكنت رأيت، ستعيد الألوان الحارّة إلى لوحة الانبعاث الأزليّ، ستعود شجاعاً إلى سوريّتك، إلى ضيعتك وإلى مدينتك المضيّعة، ليس كما كنت وكما كانت عليها حياتك الراحلة، لن تستعيد أشياءك التي هجرتَ، لقد سبقتك إليها فمزّقتها وأحرقتها القذائف والحمم، وسطت على ما تبقى من أشلائها مخالب الآثمين وأنيابهم المسمومة بالحقد.
ستعود بقرارك لتستعيد الأغلى مما لا يوجد في العالم ما يعادل ثمنه ويستحيل أن يخفّ وزنه أو يضعف ثقله، إنها الأرض، أرضك تلك التي منحتك اسمها وصوتها، والتي خلقها الله لا لتحملها بل لتحملك.
لن تعود من ذات الطريق الضبابيّ الشائك الذي سلكت، ولن يستقبلك موظف يقبض أجرته ليكشّر في وجهك وهو يضع حول رسغيك الأصفاد، ويقلّدك لجاماً ممهوراً بختم الخنوع، لن يكون سبيلُك إلى حفرة معتمة تنتظر قلبك المفطور ولا إلى القرية الظالم أهلها، سيكون دربك معبّداً بالتوق إلى ذاتك السوريّة المفارقة ومفروشاً بإرادتك الحرّة النقيّة من أوشاب الخوف والتبعيّة والعبوديّة.
ستعود من حيث بدأت كما لو أنك تنبت من التراب الأحمر، وتلك الأغصاُن المتفرّعة من جذعك المنتصب ستزهر تفاحاً وعنباً وموسيقى للحرية والحبّ.
المصدر: اشراق