محمد أمين الشامي
“كنت أشعر بنفسي كشجرة تقتلع اقتلاعاً من تربتها رغماً عن جذورها”. هكذا بدأ ذلك الشاب حديثه معي. وتابع كلامه، وعيناه تسرحان وراء ذكرى ذلك الوجع الذي ما زال يعايشه حتى الآن.
“عندما صعدنا الباصات الخضراء وانطلقت بنا، رحت ألتهم مناظر ريف دمشق المدمر وأتمنى لو أستطيع حملها معي إلى المجهول الذي ينتظرنا كي أعيد زرعها في المنفى فلا أشعر بالغربة التي أشعر بها الآن”، وتسكته الغصة.
في 22/3/2018 انطلقت عملية تهجير سكان دوما وجوبر وغيرها من مدن ريف دمشق بعد حملة شعواء أطلقها النظام ومن يساعده من ميليشيات تابعة له ولإيران وروسيا.
الإحصائيات تقول إن النظام استهدف الغوطة من دوما إلى جوبر بدءاً من تاريخ 18/2/2018 ولمدة خمسين يوماً بما يقارب 6950 غارة جوية، 6200 قذيفة مدفعية، 3800 صاروخ راجمة، 2820 برميل ألقتها الحوامات، 1800 صاروخ أرض أرض من نوع فيل، 185 صاروخ وقذيفة معبأة بمادة الفوسفور، 300 صاروخ عنقودي، 250 صاروخ وقذيفة نابالم، 11 هجوم بغاز الكلور على القطاع الأوسط وهجوم على دوما بغاز السارين. هذه كانت جهنم التي عاشها أهل الغوطة في الحملة الأخيرة والتي أسفرت عما يزيد عن 2100 شهيداً، منهم أكثر من 300 امرأة و400 طفلاً. وتبقى هذه الأرقام تقريبية لأن هناك أشخاص لم يعرف مصيرهم نتيجة لتلك الحملة.
ويخبر أحد العسكريين أن التكتيك الذي كان يتبعه النظام قبل البدء بحملته الأخيرة يعتمد قصف مناطق معينة وترك مناطق أخرى كي ينزح إليها الناس. لكنه في الحملة الأخيرة التي نذكر هنا كانت عملية إبادة جماعية. “تسليم الغوطة أتى نتيجة لخطة وضعت بالتعاون ما بين الداخل والخارج، هذا من ناحية عسكرية. أما من الناحية المدنية، فالكل كان ينتظر هدوء العاصفة كي يستطيع إحضار ما يمكن أن يجد للطعام. لكن النظام أخذ يستهدف المشافي والدفاع المدني ليشل حركة الغوطة تماماً عبر قصف لا يهدأ”، هكذا أكمل ذلك العسكري.
وعوداً على الشاب، يتابع حديثه قائلاً: “الجوع والخوف وشعور بأن القيامة قد قامت احتل من المحاصرين جوارحهم وفكرهم، مع أن جحيم القيامة تكرر كثيراً على أهل الغوطة، لكن الضغط النفسي كان أقسى هذه المرة. حتى المقاتلين باتوا في حال الصراع النفسي هذا: أيخرج للقتال أم يبقى ليتفقد أهله وما قد يجري عليهم، لا سيما أن منهم من عاد ليجد عائلته قد فنيت. ويطل السؤال الذي لطالما تغاضى عنه في الأيام السابقة: كيف سأحارب طائرة ببندقية؟”
في الليلة الأخيرة التي انقضت بمفاوضات التسليم والاقتلاع تم التعميم على المطارات بإخراج ما يمكن من طيارات لتمتلئ سماء مدن الغوطة الأخيرة: عربين وزملكا وعين ترما بأكثر من 20 طائرة مختلفة الأنواع تناوبت على حرق ما بقي ويمكن حرقه. ليتم ارتكاب إحدى أبشع المجازر التي تمت قبل التوقيع النهائي على التسليم والخروج. “قبل يوم من وقف إطلاق النار، تم إطلاق 4 صواريخ على منطقة بعربين كلها مدنيين لم يسمع لها صوت انفجار. كانت الصواريخ محشوة نابالم وفوسفور واستهدفت قبوين يحوي كل منهما عائلة. شاهد عيان أخبرنا أن الانفجار أدى إلى إغلاق الأبواب وتدمير المداخل لدرجة أن من كان موجوداً هناك تحول جسده إلى رماد. 52 جلهم من عائلة واحدة قضوا يومها، رجالاً ونساء وأطفالاً، منهم 3 أجنة في بطون أمهاتهم، والكل تحول إلى رماد ولم يستطع أحد فعل شيء لهم نتيجة عملية التمشيط المسعورة التي ينفذها النظام. كانت الأمر أشبه بالمحرقة التي جهزت لسيدنا إبراهيم مع فارق بسيط: أن النار لم تكن برداً وسلاماً أبداً هذه المرة”.
يتوقف عن الحديث وكأنه يحاول تصديق ما جرى: “تصور أن الناس تهجرت من المنطقة وبقيت رائحة الموت مقيمة فيها تأبى أن تغادرها”.
يقول الشاهد أنه سمع ضابطاً روسياً يدعى الكسندر يوجه حديثه إلى عدة أطباء في المنطقة كممثلين للحراك المدني يطالبهم فيه بالتسليم وإلا سيتم حرق زملكا وعين ترما ويحملهم المسؤولية كاملة عما سيجري. “لا أريد أن أتحدث إلى قيادات مدنية بل مع عسكريين وحسب”، هكذا أخبرهم في نهاية حديثه. وقد نقل هؤلاء الأمر إلى المجلس العسكري هناك على الرغم من الإرهاق البالغ الذي لحق بالأطباء حينها إذ لم يكن قد بقي سالماً سوى مشفيان: واحد في زملكا والآخر في عين ترما امتلأت بالجثث. وبناء عليه تمت الموافقة وانطلقت مسيرة التهجير في 24/3 لتستمر حتى نهاية الشهر الثالث في القطاع الأوسط. ليلتفت النظام إلى دوما بعدها وليطبق عليها السيناريو ذاته فكانت هجومات الكلور والسارين ومن ثم التهجير.
“ركبنا الباصات الخضراء في رحلة طويلة شاقة استمرت 36 ساعة إلى قلعة المضيق والشمال عانى الناس فيها من كل شيء، حتى بلغ الأمر أن البعض رفع السلاح في وجه الآخرين نتيجة للضغط النفسي الذي سببه التسليم والخروج والخذلان والشعور بأن ما تم تقديمه من دماء ذهبت هباء.
لا أخفيك أن الناس فرحت أن هناك حلاً وأنها ستعيش. هذه حقيقة لا يمكن إنكارها. وبين الخذلان والخوف ورائحة الموت عرفنا أن البقاء على قيد الحياة بحد ذاته انتصار لم يكن ليرضى عنه النظام، لولا أن التحضير كان قائماً لاستهداف مناطق الترحيل”.
يمسح بكفه حبات عرق نضحت على جبينه ويقول: “لن نسامح ولن ننسى وسنرجع يوماً كي ننتقم”، ويتركني ويغادر.
لم أكتب شيئاً من عندي، ولن أحاول تجميل ما قاله ذلك الشاب، بل آثرت نقل الحديث كما جرى بعد أن حل يوم الذكرى الأليمة لنعيش بعضاً مما عايشه الناس هناك ومما سمعنا عنه ولم نر إلا ما جادت به المقاطع المصورة المبثوثة هنا وهناك، والتي حذف اليوتيوب منها الشيء الكثير. ولعل خير ما نختم به هذه التذكرة ما قاله أحد السكان لوكالة الصحافة الفرنسية قبل خروجه: “قررت مغادرة الغوطة. كيف بإمكاني أن أعيش مع شخص قتل أهلي وأصدقائي؟ مع من دمرني ودمر مستقبلي؟” وهنا أستعير من أحدهم جملة يذكرها على الدوام: اقتلعونا ولم يعلموا أننا بذور لا تموت.
المصدر: اشراق