فوّاز حداد
تكاد الرواية العربية تخلو ممّا يُدعى بالحسّ الديني، ليس لغيابه عن مجتمعاتنا، بل لتغييب الروائيين الدينَ عن الرواية. وبات ذلك متعمّداً لنفي الاتهام بالإرهاب، بعد التصاقه بالإسلام ــ وإن كانت المخاوف منه أقدم من بداية القرن الحالي. ابتدأ، إن كانت له بداية قريبة، بمسايرة المدّ الاشتراكي والتقدّمي، ثم العلمانية والديمقراطية، وكأنّها جميعها على عداءٍ معه، مع أنّه لا تَعارض بينها. وحتّى إذا كان هناك تناقض، فبالوسع التعايش معاً، خاصّة أن طرح التساؤلات حوله أكثر من أن تُحصى، وهي تضجّ في الحياة اليومية ويتجاذبها الدُّعاة وأصحاب الفتاوى.
تَعتبر السلطةُ الدينَ منطقةً خطرة، حاولت احتكارها جهاتٌ عدة؛ الدولة، الفقهاء، الدُّعاة، الحركات الجهادية، وأيضاً المحتالون… وكأنّما هو اختصاصٌ وتخصُّص. بينما هو مَشاعٌ كالهواء، على علاقة صميميّة بالبشر، يستمدّ خصوصيّته من التوق الإنساني إلى المعرفة والتكهّن بالمصير. وأكثر ما يُخشى منه إثارة نزاعات لا تخمد، مع أن ما يثيره في الواقع مِن خلافات إنّما هو في تفسيره. ولقد كان للرواية الحقّ في أن تكون فسحة مفتوحة له.
بالعودة إلى الرواية الأوروبية، تعدّد تجلّي الدين مع نشوء الثورة الصناعية، وتمحور حول الخير والشر، فكان العامل الاقتصادي سبب طوفان الشرور، والدين العزاءَ والبلسم. ثم أخذ بالتراجع أمام العقل وهيمنة التنوير، وجرى التعبير عنه بالنزوع إلى الأخلاق، واختُصر إلى شفقة الأغنياء على الفقراء ودور الأيتام والتبرّع لذوي الحاجة، وبات جزءاً من الثقافة البرجوازية، تمترست خلفه الفوارق الطبقية. ثم اندحر أمام طوفان اليسار في العالم، وشكّلت الشيوعية جاذبية قوية مع انتصار الثورة الروسية، وبداية الحلم ببناء مجتمع بلا طبقات، فأصبح الإلحاد سلاحاً ضدّ الدين. ولم يقصّر فرويد في تبيان تأثير الجنس في البشر، وفسّر الدين بأنه بؤرة للعُصاب والوَساوس والهيستيريا. كذلك لم تقصّر الرأسمالية في الإسهام بتهميشه تحت شعاراتها عن الحرية الفردية، فأُبعد الإله، واستُبدل بالمال: الربّ الأوحد؛ ما أفقدَ الدين الحيّز الذي كاد أن يكون له نصيبٌ في الأدب، والأصحّ أنّه طُرد منه.
أصبح الإيمان بالعلم والآلة البديلَ المعتبَر للدين، وقدّم للبشرية ما تصبو إليه من تفاؤل بالكفاية والرفاهية بعدما خلّفت الحروب العالمية فجائع وخراباً، كان لها تأثير كبير في تراجع الدين، هذا إن لم يُحمّل مسؤوليتها.
في الرواية العربية، هيمن التدرّج في إغفال الدين وما يُفترض أن يشكّله من حيز في الرواية، ما جعلها تخسره كإشكال وجودي وفكري وحياتيّ، وما يشكّله من قِيَم كبرى جوهرية، الأمر الذي أفقر الرواية حرّيتها وتفرّدها واستقلاليتها عن المؤثرات السياسية، وما يمكن أن يثير الدين من تعدّد في التفكير والرؤية. صار بوسعنا التكلّم عن الإنسان الأحادي، ما وضع له حدوداً لا يتجاوزها، أدّت إلى تجاهل البُعد الروحي.
مثلاً، ماذا لو كان الاشتراكي مؤمناً؟ هل يتخفّى على إيمانه، أم أنّ بمقدوره تحقيق الانسجام بينهما، أو يلغيه لحساب العدالة الاجتماعية؟ هذا الخيار كان من نصيب العهد الاشتراكي، دار في كواليسه وجرائده، لكنْ ليس بهذه الصراحة الفجّة، إلّا في فروع التحقيق، وكان قاسيا جدّاً. وأصبح في الدولة الشمولية شأناً رئاسياً، تَصْدُر التعليمات حوله من القمّة، سواءً بملاحقة من يصلّي وتسريحه من وظيفته، وربّما إخماد أنفاسه، أو بناء المساجد وانتشار معاهد حفظ القرآن. أمّا العلمانية الوليدة، فكان تعاملها مع الدين ليس حسب العلمانية نفسها، بفصل الدين عن الدولة. فقد بلغ التعلمن حدود التدخّل في تعميم عدم وجود الخالق، والسخرية من الإسلام. أي لم تُفهَم العلمانية، ولم يُسْعَ إلى تفهُّمها، إذ للعلماني ألّا يؤمن، لكن أن يدع الآخرين في إيمانهم، وألّا يُضيّق على ممارسة شعائر دينهم.
في الفترة الأخيرة، عاود الدين الظهور بشكل عُنفي ورثّ، كان الممثّل له “القاعدة” و”داعش” وأشباههما. وجدتْ فيه السلطات بُغيتها بالتخلّص من الثورات، وردِّها إلى إرهاب، والتعويل في وضع اليد عليه، بردّ التديّن إلى قطع الرؤوس ونكاح الجهاد، والاستئناس بدين شعبي مفرَغ من آلياته العقائدية والروحية.
وإذا كان الدين مدعوّاً لاحتلال مكانه في الأدب، فألّا يكون مسايراً لتيّارات واتّجاهات، تظهر وتختفي، الدين ليس تابعاً لها. هذا إذا كان تساؤلاً بشرياً حُرّاً، ليس غموضه مبعث خلوده، ما دام هناك من يؤمن بمعنى وجودنا في الكون، ما يذهب إلى تفسيرات لا حصر لها، تجمع بين البشر في محاولاتهم، عبر التاريخ، لتفسير لُغز الحياة.
لا غرابة في أن يجد الدين مساحته الكبرى في الرواية، ومن العبث إخلاؤها منه. لا يعني هذا فرضَه على العمل الروائي، بل أن يكون بحسبانها، بعدم مصادرته مسبقاً في رؤية الكاتب وشخصيّاته، إذا استدعى ذلك. ليس الغرض كتابة روايات دينية، ولا استبعادها، بل في عدم تغييب العامل الديني في حال كان توافره ضرورياً.
تُعنى الرواية بشرطِنا البشري، والدين جزء منه، سواءً كنّا نؤمن أو لا نؤمن. ففي الحالين؛ القبول أو الرفض له نصيبٌ في المنطق الإنساني. ذلك أنّ الدين طرح تساؤلاً وأجاب عنه، لكنّه أصبح، هو نفسُه، موضع التساؤل.
المصدر: العربي الجديد