شفان إبراهيم
أرسل السيد ميشيل كيلو رسالة إلى السوريين، يُذكرهم ويحثهم على ضرورة الالتزام بمقارعة الظلم والمضي في طلب الحرية. رسالةٌ حملت من المعاني السامية الكثير. وتقاطعت مع العديد من الاستفسارات التي طرحت نفسها، حول تأخر رسالة من هذا النوع، بعد كل هذه الدماء التي سالت. هي بالتأكيد رسالة عاطفية، منطقية، وواقعية معاً، ولا تخلوا من النبالة وتُبعد صاحبها من دائرة الشمول بالمسؤولية لما آلت إليها أوضاع المعارضة. ربما هي محاولة زيارة خائفة لعقولنا على أمل أن تكون الذكريات قد ماتت. ولا مجال للحديث عن تاريخ ميشيل كيلو السياسي ونضاله وللأعوام التي قضاها معتقلاً في دفاعه عن الحريات والمجتمع المدني، فهي واضحة ومُشرفة.
هذه الرسالة تحديداً كان لها أن تكون في بدايات الحدث السوري، حيث سريان وشمول شعار “واحد واحد واحد الشعب السوري واحد” وليس الآن وفق الراهنية الانسدادية لطبيعة العلاقة بين السوريين موالاة ومعارضة، على الصعيدين الرسمي والشعبي، وبعد تمزيق النسيج السوري جغرافياً وشعبياً. خاصة في ظل جمود الصراع بين الأطراف المتصارعة، وتوقف الآلة العسكرية، واللا توافق السياسي واللا نجاح لعمل اللجنة الدستورية. ما يصعب ويعقد إحداث خرق لمناطق النفوذ العسكري والحدود الأمنية على هشاشتها بين شمال شرقي سوريا، وشمال غربي سوريا والعمق السوري.
أدعي أنني فهمت من رسالته، أننا نحن السوريين تنتظرنا مستويات أعمق وأكثر بشاعة، وحيّاة أكثر رذالة من العقد الماضي. كُنت أمني النفس أن يتعمق أكثر في كشف المستور وفضح المختبئ، خاصة أن الفضائح ما عادت تغطى بالقش.
يقول الأستاذ في إحدى فقرات رسالته “لن تقهروا الاستبداد منفردين، إذا لم تتحدوا في إطار وطني وعلى كلمة سواء ونهائية، فإنه سيذلكم إلى زمن طويل جداً”. وهو في ذلك يضع أصبعا ضخماً على جرح قديم تفسخ وتسوس وتعمق، لكن النخب السورية ما استطاعت أن تجد له مخرجاً وحلاً عاجلاً بديمومة. وإن كان الجرح الغائر واضحاً منذ بدايات الحدث السوري، إلا أنه بات يأخذ مكانة ثانوية إذا نظرنا إلى خريطة التقسيم الجغرافي الموجود حالياً، وانصراف كُل شطر صوب مصالحه وحياته الخاصة.
كما يدعو كيلو السوريين لدمج المصلحة الخاصة والعامة، والنظر إلى سوريا كوطن بعيداً عن الإيديولجيات والأهداف. في هذه الدعوة وضوحٌ وشرح كافٍ لحجم الشرخ الحاصل بين صفوف السوريين وعلى جانبي الطريق المؤدي إلى الخلاص. لكن الواضح أيضاً أن حجم الاستثمار الحزبي والشخصي كان كفيلاً بترتيب اللا توافق بين أطراف المعارضة السورية. إذ يقول أيضاً “فالتقوا بمن مختلف معكم بعد أن كانت انحيازاتكم تجعل منه عدواً لكم” يعيد الأستاذ ميشيل همه ويشكوا قلة حيلته على وطنه، لكنه في الوقت عينه يعترف بفشل السنوات العشر لتشكيل هويّة جامعة لنّا جميعاً. مؤكداً على أنه “لن يحرركم أي هدف آخر غير الحرية، فتمسكوا بها في كل كبيرة وصغيرة، ولا تتخلوا عنها أبداً، لأنها قاتل الاستبداد، أنتم الشعب وحده من صنع الثورة، فلا تدعوا أحدا يسرقها منكم”. ويضيف “ستدفعون ثمناً إقليمياً ودولياً كبيراً لحريتكم” الثمن دُفع يا سيدي، فهو إلى الآن عقدٌ من حياتنا دون فائدة، وتدمير لبيئتنا وحواضننا وحيواتنا. ألا يكفي أننا توقفنا عن أحلامنا الخاصة. يدعونا الكاتب ميشيل كيلو إلى التمسك بالحرية في كل جزئية وأن لا نتركها أبداً، رابطاً بين الحرية وقتل الاستبداد.
في الواقع شدني كثيراً طلبه التمسك بالحرية وعدّم التخلي عنها، فأعادني إلى مسرحية “الذباب” للفيلسوف “جان بول سارتر”، وتحديداً مقولته الشهيرة إن “الحرية البشرية لعنة فادحة للإنسان، لكن دون هذه اللعنة لا تكون للإنسان كرامة بشرية”. ففي تلك المسرحية التي عرضت أثناء الاحتلال الألماني لفرنسا، ودأب على حضورها الرواد والمتابعين طوال 18 شهراً تحت قصف الطائرات والقنابل التي تسقط على المدينة. خاصة وأن الخلاص المتجسد بالحرية في تلك المسرحية قام على خلاص الشخص، وتحرير المجتمع، والاستقلال الداخلي والخلقي، وبذلك دمج الفعل السياسي بالعمل الفردي. وبالرغم من الهزيمة الساحقة التي ألحقتها ألمانيا بفرنسا في الحرب العالمية الثانية، إلا أن الفرنسيين يا أستاذ كيلو وأنت تكتب من مشافيهم، عبروا عن كل ما يرغبون عبر المسرح والفن والكتابة والأقلام فشرحوا واقعهم السياسي والاجتماعي، بعكس حالنا. ولعل هذا ما دفعه للقول والطلب أن لا يتخلى السوريون عن “أهل المعرفة والفكر والموقف، ولديكم منهم كنز.. استمعوا إليهم، وخذوا بما يقترحونه، ولا تستخفوا بفكر مجرب، هم أهل الحل والعقد بينكم، فأطيعوهم واحترموا مقامهم الرفيع”.
وأجزم أنه يدرك حجم معاناتهم ومأساتهم وعدم التفات أطر المعارضة السورية إليهم، وبالرغم من حملهم مسؤوليتهم تجاه مجتمعهم السوري. لكني وددت لو أتمكن ذات مرة من الحديث إلى السيد كيلو والاستفسار عن حجم الاستهتار واللامبالاة وعدم الاكتراث بالأقلام والمواهب والمبدعين وأهل المعرفة من قبل السوريين نخباً سياسية وعسكرية، ومؤسسات المعارضة. خاصة أنني أدعي الإتقان جيداً لفن التعبير عن ذلك، كوننا ككتاب كرد ندرك جيداً معنى المحاربة والإقصاء.
لا شبه بين سارتر وأحد من النُخب السورية هذا مؤكد ومُحال. لكنني أود القول إن جان سارتر انطلق من الفكرة الوجودية عبر طرحه للإرادة الحرة، شيء يُمكن القول عنه، الحرية عبر المسؤولية. بينما يشترك الجميع معارضة، وموالاة، مؤسسات الدولة وهيئات المعارضة في كل أرجاء سوريا، كلهم اشتركوا في مسخنا وسحق تطلعاتنا.
نحن منهكون يا أستاذ ميشيل لا أحد بالمطلق اهتم لحالنا في الداخل، ولا من سعى صوب حماية من في المخيمات كما تقتضي الضرورة والمصلحة والوطنية. نحن السوريين قصتنا عجية وغريبة، وهي متوجة بمزاج كل من تطول يده في أي مكان يُسمح لليد بالإطالة. صور بؤسنا أصبحت مرشحة لنيل جوائز عالمية عن مدى عمق مآسينا، ويبدوا أنها صور لم تنجح في استدرار عواطف وتضامن من كنتم تأملون بهم خيراً.
أتمنى الشفاء العاجل للسيد ميشيل كيلو لسببين، أولهما: النزعة الإنسانية والخيّرية في تمني الشفاء والحيّاة لكل مريض عامة، وبهذا الوباء خاصة. وثانيتهما كي أقول له: كلكم أنهيتم ذاك الشغف في صدورنا.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا