محمود الوهب
ليست هذه المقالة/ الدراسة نقداً نظرياً، بل رؤية سياسية في ضوء الواقع الذي عاشه الكاتب، على الرغم من قناعته بأن المتبقي من الماركسية ماديتها الجدلية، والنفحة الإنسانية التي يوجعها فقدان العدالة الاجتماعية، وازدياد الهوّة بين الدول الغنية والأخرى النامية أو تلك التي لم تستطع تنمية بلدانها لأسباب كثيرة، في وقت لم يعد فيه لليسار دور مؤثر.. وكأنما قد انتهى فكراً وممارسةً وتأثيراً في مسار الواقع السياسي، حيث هو موجود. والمقصود، على نحو خاص، اليسار الذي تمثله الأحزاب الشيوعية التقليدية في البلاد العربية التي ينحاز معظمها إلى سياسات حكومات بلدانها، ناهيكم عن تمزّقها أشلاء، ومنها على سبيل المثال الحزب الشيوعي السوري، بأفرعه وشظاياه التي ارتضت أن تكون تابعة لحليفها الأبدي، آل الأسد الذين يحكمون سورية، ويتحكّمون بمقدّرات السوريين، وبثروات بلدهم، منذ خمسين سنة وأكثر، الأمر الذي أعاد البلاد إلى ما قبل تفتح براعم نهضتها في خمسينيات القرن الماضي. ولا فعل للحزب غير ظاهرته الصوتية التي يعزف كل من أقسامه على وتره الخاص بقيادته. يؤكد ذلك موقفه التابع تجاه ما حدث في سورية خلال السنوات العشر الماضية من تقتيل وتدمير وتهجير. وفي النتيجة، تحقيق ما كانت تصبو إليه إسرائيل، فأقصى ما كانت تعمل عليه هذه أن تغدو مقبولة، بأفعالها وجرائمها، في هذا الوسط الشعبي المعادي لها، والمقدَّر له أن ينهض، في وقت ما، بإمكاناته المتعدّدة وغير المحدودة.
مدخل عام
ولد اليسار مع الثورات البرجوازية الأوروبية ضد بقايا النظم الإقطاعية، واستمد اسمه من مكانه في برلماناتها، ثمَّ انفصل عنها لدى ذهاب مجتمعاتها إلى الانقسام الطبقي الجديد، ليقف إلى جانب الطبقة العاملة الصاعدة مع نمو الآلة وزيادة الإنتاج، ثم ليستوي بُعيْد ثورة أكتوبر الروسية ممتداً في معظم بلدان العالم، وموسوماً أغلبه بالشيوعية السوفييتية راعيته. ما الذي تبقّى منه اليوم بعد ثلاثة عقود من سقوط الاتحاد السوفييتي؟ لا شيء، فقد قال السقوط كلمته، وقالتها حركة الحياة، وتبدّلها الدائم. وقالتها الأحزاب الشيوعية بتراجعها عن مراكز الصدارة إلى التبعية، وعجزها، في العقود الأخيرة، عن استقطاب الأجيال الناشئة. وقالها فضاء دنيانا الذي سقفته الإيديولوجيات قديمها وحديثها، فإذا كان فرانسيس فوكوياما قد جعل الرأسمالية “نهاية التاريخ”، فإن الماركسية، في بعض جوانبها، قد فعلت الشيء نفسه، إذ أتت، على الرغم من مادّيتها الجدلية، بشعار: “من كل حسب عمله ولكل حسب حاجته”، فسقفت العالم بمرحلة الشيوعية! وقالت بإنهاء التناقض التناحري ليغدو سلمياً مع الشيوعية كتشكيلة اقتصادية أخيرة، ولعل هذه الفكرة لا تبتعد عن فكرة الجنة في الأديان، غير أنها في الأديان مرتبطة بثواب الإنسان على أفعاله في الدنيا.
ويبقى الصراع قائماً بين الإنسان وتطويع قوى الطبيعة أكثر فأكثر، والاستفادة من ثروات الأرض اللامتناهية في تنوع غناها، وفي توليدها عناصر جديدة يستخدمها الناس أجمعون على اختلاف تنوع انتمائهم القومي أو الديني أو تراتبهم الطبقي/ الاجتماعي. بعد هذا المدخل، يمكن ملاحظة ما يلي:
نقاط أساسية
أولاً: يمكن القول إنَّ اليسار في جوهره معنى، ورؤية تهتم بحياة الإنسان شكلاً ومحتوى، روحاً ومادة، وهذا الجوهر غير ثابت، بل هو متبدل. لكنه منحاز دائماً للخير ضد الشر، وللعدل ضد الظلم، فالحياة التي جاء على قضاياها الأنبياء والفلاسفة والمصلحون، ومالوا إلى تنميتها، بناءً وإعماراً وارتقاءً في ميادينها كافة، لأجل إعلاء شأن الإنسان: عدالة اجتماعية، وسلماً دائماً، ونشراً لقيم الحق والخير والجمال.. ما زال جوهرها باقياً، لكن تحقّقه اختلف بتبدل أطر الحياة، وأشكالها. وعلى ذلك، فإنَّ الإيديولوجيا، أو معظم حزم الأفكار المعنية بتحقيق تلك القيم لم تعد صالحة بحرفية نصوصها المطلقة. مع إمكانية الأخذ بروحها، وما يتوافق مع الواقع المتبدل.
من هنا يمكن القول: أليس ثمّة تجنٍ على المجتمع المعاصر في تقسيم اليسار التقليدي للمجتمع تقسيماً حدِّياً، أي إلى طبقتين متناقضتين، وإعطاء إحداهما صفة السيادة المطلقة.
اليوم، ومع التقدّم العلمي والتكنولوجي اللذين فاقا كل تصور، تبدّلت سمات الطبقة العاملة، وميزاتها، إذ لم يعد العامل يبيع قوة عمله العضلية، بل إن خبرته، وما تكدس في ذهنه من معارف، هي التي ترتقي بالإنتاج اليوم. كما أنَّ الآلة رفيعة التطور تقف اليوم مع العامل، وقد تحلُّ محلَّه أحياناً (نحو 85 مليون روبوت في العالم سوف يأخذون أمكنة عمال في عملهم)، ما يجعل هذه الحلول بحاجةٍ إلى ذهنيةٍ متطوّرة للتعاطي معه. ولم يغفل ماركس هذه الناحية، إذ أشار إلى أنه، مع كل إنجاز علمي جديد، علينا إعادة النظر بأفكارنا.. وإذا كانت الآلة قد استعبدت العامل قبلاً، فإنها اليوم تهدّد حياته أكثر من ذي قبل، وتفرض على قوى اليسار البحث عن حلول منطقية وعملية.
ثانياً: إذا كان ما تقدَّم قد حدث في البلدان المتطورة صناعياً، فإن الطبقة العاملة في بلداننا (بلدان العالم الثالث) لم تستكمل شروط تكوِّنها، ولم تصل إلى سماتٍ عامة تميزها، أو تشكل لها ثقلاً نوعياً حتى تضافر على أجنتها كلٌ من الاقتصاد الريعي، سواء في بلاد النفط التي واتتها ظروفٌ منعت من وجود طبقة عاملة محلية لديها، أم في البلدان الأخرى “الثورية” التي حكمها العسكر بأجهزتهم الأمنية، فقطعوا طريق نمُوِّها الطبيعي بتأميم المعامل التي لم تدرها أياد خبيرة، ولا أمينة، فدمَّرها الفساد متعدّد الأشكال، وشوَّه بنية طبقتها العاملة، فأُخْضِعت نُوَيَّاتُها للبيروقراطية والطفيلية اللتين تكسبتا على أكتافها. وأوهمها الحكام، وأبواقهم أنها تعيش الاشتراكية، وتناضل وطنياً ضد دسائس الإمبريالية والصهيونية. ولعلَّ اليسار المتمثل بمعظم التنظيمات الشيوعية، ساهم في هذا الأمر، على الرغم من مواقفه المعلنة من البرجوازيتين، الطفيلية والبيروقراطية، ناهبتي الدولة والشعب معاً، بيد أنه متحالفٌ مع بيروقراطية العسكر شريكة الطفيلية.
ثالثاً: يمكن أيضاً إضافة فكرة الفوارق الفردية التي أهملتها التجارب الاشتراكية السابقة، تحت عنوان المساواة الميكانيكية التي انعكست سلباً على الإنتاج والإبداع. العامل المهندس أو الخبير هو اليوم من يتعاطى مع أدوات الحضارة المعقدة، ويبدع فيها ويطوِّرُها، ما يعدُّ أساسياً في تقييم أدائه بين زملائه، فالفوارق الطبيعية موجودة بين الناس، وهي أقرب إلى التدرّج النسبي. وعلى ذلك، يقع الاستغلال الرأسمالي على عاتق الطبقة العاملة، وعلى شغيلة آخرين، وفئات اجتماعية أخرى، وبنسب تتوافق مع ذلك التدرج! ومن هنا، اليسار أينما وجد يعدُّ نصيراً للشرائح الدنيا، الأكثر ضعفاً.
رابعاً: لعلَّ أهم قضية تشغل بال الناس اليوم هي مسألة المواطنة، وحقوق الإنسان الفرد بمعانيها كافة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإدارية، وبخاصة في بلدان مثل بلداننا التي فيها كمٌّ كبير من الأطياف القومية والدينية والمذهبية.. فحين ينال الفرد في المجتمع حقوقاً متساوية، وفق قدراته وإمكاناته، تصونها قوانين عادلة، كتلك المعلن عنها في اللائحة العامة لحقوق الإنسان. وحين يحقق حرياتٍ متساوية أيضاً، يعني أنه حصل على تأشيرةٍ تؤهله للدخول إلى عالم الإبداع، ما يعني: زيادة الإنتاج كماً ونوعاً، وبالتالي المساهمة في حلِّ مشكلات الناس المتزايدة، ربما لا على صعيد الفرد أو المجتمع الواحد المنعزل، بل على صعيد الإنسانية كلها. وهذا ما يجب أن يبني عليه اليسار مفاهيمه! أما الزعم بقيادة العالم، وتوجيه دفته عبر حزبٍ واحد، وإيديولوجية واحدة، ففي ذلك مصادرة للسياسة، وتأطير للحياة، وتقليصٌ لرحابتها وتنوّعها، وتجاهل فكرة حركتها الدائمة القائمة على التناقض، وميلاد الجديد دائماً وأبداً، وبالتالي الحد من الإبداع.
خامساً: لا أحد يمتلك الحقيقة كاملة، وهذا ينسجم مع فطرة الإنسان وقوانين الطبيعة. ولا بد لليسار الجديد من أن ينحو باتجاه الليبرالية، بوصفها الحرية التي افتقدتها الأنظمة الاشتراكية، وأحزابها الشيوعية، وهي وسيلةٌ لا غنى عنها في النضال لأجل العدالة الاجتماعية.. وإذا كان الإنسان لا يستطيع العيش بدون إيديولوجيا، فلا بد من امتحان هذه الإيديولوجيا عبر حريةٍ تنافسها مع الإيديولوجيات الأخرى على أرض الواقع، ومصلحة الإنسان. ألم يقل ماركس إن “الواقع هو الذي يحدّد صحة الفكرة من عدمها..”، وهذا لا يتحقق إلا في أجواء من الحرية والديمقراطية، المحميتين بالقوانين والقضاء المستقل كلياً وحرية الصحافة والإعلام..
سادساً: على الرغم من أنَّ الهوة بين تطور بلداننا وما وصل العالم إليه من تقدّم، غدت أوسع مما يمكن ردمه، فلا بد من إبعاد حالات الإحباط والتشاؤم، والقول إن العالم سبقنا، ولم يعد لنا إمكانية لقطع البعد الشاسع بيننا وبينه. أبداً، فلكل مجتمع بنيته، وما يميِّز إنسانه، ولكل أرض أو بيئة سماتها الخاصة. وبالتالي، وجود الإمكانية لإبداع إنتاج مختلف يلبي حاجات إنسانية قائم ويتسع، فالعالم، على الرغم من الصراع المحتدم، يتجه نحو نوع من التكامل على غير صعيد، فخلال العقود الثلاثة صعدت دولٌ يمكن اتخاذها مثلاً، إذ كانت في عداد بلداننا، كالهند وتركيا وماليزيا وسنغافورة.
واستناداً لما تقدّم، وإذا كان لابد من تقديم أجندات عمل لجيل الشباب من يسار هذه الأيام، فيمكنهم إعطاء الأولوية لما يلي:
مهام اليسار الجديد الرئيسة
أ– لعلَّ قضية العدالة الاجتماعية بمحتواها الإنساني لا تزال محور مطالب الحركات اليسارية التقليدية سابقاً، أو مساعيها، وهي حلمٌ مستمرٌ في أفق الطامحين إليها، وإن اختلفت معاييرها بين زمن وآخر. والمعنى في مفهوم العدالة الاجتماعية توزيع الثروات الوطنية بين أفراد المجتمع دونما فوارق صارخة، ووفق ما يقدّمه كل فرد، مع ملاحظة أن العمل على زيادة الإنتاج، وتنوعه، ومكافحة الفساد، يساهم في تغطية ما يمكن أن يُحدثه تطور الآلة المشار إليها من تقليص لفرص العمل، وزيادة البطالة التي قد تنشأ عن تطور الآلة.
ب – الاهتمام بالتعليم، وعدّه القضية الأولى فهو الأساس لكل نمو وتطور، وخصوصا في بلادٍ تعاني التخلف الشامل، إذ تعدّ مشكلة التعليم في عالمنا المعاصر أم المشكلات كلها، فمنها المبتدأ، وعندها الخبر، فمبتدأ التعليم خطوة أولى باتجاه حضارة العصر، ولكن أي تعليم يعنينا؟ إنه التعليم الديمقراطي، لا في شموله المجتمع بأسره، أو في تمدّده أفقياً فحسب، بل في عمق ديمقراطيته بين المعلِّم والمتعلِّم.. والابتعاد عن التلقين، وتحفيظ النصوص والأخذ بيد المبدع والمبتكر، فالمطلوب تعليمٌ يفسح في المجال لتفتيح ذهنية المتعلم، وإكسابه مهارات الإبداع، ما يتيح له مستقبلاً الانخراط الإيجابي في عملية تنمية بلاده.
ج – الحرص على سلامة أسس الديمقراطية، ومقوّماتها، وهذه مرتبطة بالقوانين الناظمة لتشكُّل الهيئات الديمقراطية الرئيسة كالمجالس التشريعية، ومجالس المدن والأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع الأهلي والمدني ووسائط الإعلام، فلا يجوز تقييد حرياتها بقوانين استثنائية تحدّ من دورها، ولا يجوز إعطاء ميزاتٍ خاصة لأية جهة حكومية محدّدة، كما هو الحال في بلدان عربية كثيرة، كأجهزة الأمن ووزارة الدفاع وحاشية الحاكم عموماً. ولا بد من ضبط ولاية الرئيس بدورة أو اثنتين لا أكثر، كما لابد من إلغاء فكرة تمجيد الرئيس التي يبدأ بها الاستبداد ويتكرّس، وبالتالي يعم الفساد ومنه الخراب أيضاً.
د – قضايا المرأة والطفل. من أهم مفاهيم اليسار اليوم، تبرز مسألة مواقفه من قضايا المرأة، والأطفال، بوصفهما الحلقة الأضعف في المجتمعات، وخصوصا في المتخلف منها، إذ لا يزال الرجل يميَّز عن المرأة في مسألة الأجر الأعلى مقابل العمل الواحد. إضافة إلى ميزات اجتماعية تعود إلى عادات مستمدّة من العهود الإقطاعية وما قبلها. ويمكن التذكير بفكرة ماركس: “التغيرات الاجتماعية العظيمة مستحيلة بدون ثورة نسائية، وتقدّم أي مجتمع يقاس من خلال وضع المرأة فيه”. وثمّة بقايا مشكلاتٍ لا تزال قائمة في مجتمعاتنا (زواج القاصرات والأطفال، ختان الأنثى، جرائم الشرف، .. إلخ). أما الأطفال فيجري استغلالهم في العمل وفي حرمانهم من التعليم. ولكل من المرأة والطفل خصوصياتٌ تختلف عن الرجل، وبسببها يتحوّل كل منهما إلى سلعةٍ يُتاجر بها على النطاق العالمي، وخصوصا زمن الحروب. إذ ترتكب فظاعات من الظلم الإنساني الذي يقع على هذين الكائنين الجميلين. وما حصل في سورية خير دليل (مليونا طفل سوري خارج إطار عملية التعليم)
هـ – اليسار الجديد معني بقضايا المجتمع مباشرة، لإيجاد برامج تحميه، وتجنّبه أمراضاً خطيرة غالباً ما تنجم عن ممارسات أجنحة من البرجوازية الطفيلية، مثل مافيات تجارة المخدرات والرقيق والأعضاء البشرية! إذ إن الأطفال وجيل اليافعين والشباب هم أكثر ضحاياها. وغالباً ما يحمي تلك التجارة أفراد في الحكومات الاستبدادية، إذ تستغل الأنظمة الديكتاتورية، وحاشيتها الفاسدة خصوصاً، تلك الفئة العُمرية لتنظيمها في مليشيات عسكرية تقودها، في النهاية، إلى الموت أو العجز الدائم. ومن ذلك ما نراه اليوم من فصائل مختلفة، تسرح في سورية وليبيا واليمن وغيرها من البلاد.
و- لابد لليساري من أن يكون مهتماً بدور منظمات المجتمع المدني، تلك التي كانت محرَّمة في التجارب الاشتراكية، والشيوعية السابقة، بل إنها كانت موضع اتهام، على الرغم من أنها رديف للدولة في المحافظة على أمن المجتمع وسلامته العامة. إذ تخفف مما تخلِّفه الرأسمالية من قسوة بالغة في حياة المجتمع، فتساهم، عبر أنشطتها، بتجاوز حالات التخلف من فقر وجهل، وانعدام خبرات، ومرض وانحراف، إنها تمكّن المجتمع من نفسه توعية وإرشاداً، وبث روح الثقة بالحياة وفي البناء والتنمية.
ز- يحتاج اليسار الجديد إلى إعادة النظر في رؤية كارل ماركس للدين إذ عرَّفه بـ “زفرة الإنسان المضطهد أو المظلوم، وأنه عزاء من لا عزاء له، وروح من لا روح له، إذ سَحَقَها تحالفُ الإقطاعي المستبد ورجل الدين الذي وعد المسحوقين بنموِّ روحهم في الحياة الثانية الأبدية”. فالدين، في عمقه، ملاذٌ على نحو ما، ولم يكن ماركس ليؤيد إلغاء الدين بمرسوم، بل في العمل على رفع الظلم وأسباب القهر والقمع والاستغلال. ومن هنا يمكن الإشارة، وللمثال فقط، إلى خطأ موقف الحزب الشيوعي السوري من الثورة السورية عام 2011 إذ نظر إليها “ثورة إسلامية”، وبذلك قلب مفهوم الوعي، وتناسى فكرة القمع والتهميش. وعلى ذلك وغيره الكثير، لا بد من تصحيح نظرة اليسار إلى الدين، والاهتمام به مساهماً في توسيع مجال البعد الروحي للإنسان الفرد، وعامل تآلف وتحابّ بين أفراد المجتمع الواحد، وعامل خلق وإبداع إنسانيين، وتجاوز الفكر السلفي الظلامي، وما يستتبعه من أعمال عنف وتعنيف. ويستطيع الدعاة ومشايخ الدين، إن هم أخذوا بروح الدين، في جانبي التشريع والفتوى، وتقديم ما هو إنساني على ما هو عارض مرتبط بحدث معين، أن يسدّوا الثغرة ما بين العلم والدين. التنوع الفكري جبلَّة لدى الإنسان، لا ينبغي أن يكون عامل اختلاف وتضادّ بين الناس، بل عامل تلاؤم والتئام، فأنْ تكون يسارياً يعني أن تعلي شأن الإنسان بالدرجة الأولى، وأن تهتم بقضاياه المادية والروحية.
ح – وثمّة قضية في غاية الأهمية هي القضية الأخلاقية، التي يجب إيلاؤها الاهتمام الكافي، سواء أتت من كتب الدين وتعاليمه، أم من الفلسفة والتربية، وعلم النفس الاجتماعي، أم من ضمير الإنسان الذي يختزن في ذاكرته قيماً إنسانية متراكمة، فمع سيطرة الرأسمالية وتوحشها، انتشر على نطاق واسع ما يسمّى الفساد الإداري في حكومات دول العالم، وانعكس ذلك سلباً على نتائج الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية. ويعيد بعضهم أسباب أزمات اقتصادية أو مالية كثيرة إلى ضعف الجانب الأخلاقي. وهذا لا ينفي دور القانون الرئيس، بل يكمله ويقوّيه. وتتأثر بلدان العالم المتخلفة بالفساد أكثر من غيرها، حيث الاستغلال يأخذ أشكالاً أكثر قسوة، ففي هذا المجال، لا بد من التذكير بالأسس الأخلاقية لليسار التقليدي، ولا أظنها تبدّلت، فهي ما تزال تقوم على احترام ملكية الشعب العامة، وتثمين قوة العمل، وعدم امتهان كرامة الإنسان بإعطائه الرشوة، تحت أي مسمّى كان، وما قبوله إلا عتبة فساد أولى.
ط – وإذا كانت تلك مهمات اليسار وطنياً فهو معني عالمياً بقضايا كثيرة مشتركة بين المجتمعات البشرية كافة، كقضايا التنمية، وردم الهوة بين الفقراء والأغنياء وبين البلدان المتخلفة والأخرى المتقدّمة، وقضايا تلوث البيئة بأشكالها المتعدّدة، وإصلاح قوانين الأمم المتحدة، وأوله إلغاء حق النقض (الفيتو) الذي ألحق الضرر بشعوب كثيرة، إضافة إلى قضايا الأمن والسلام العالمي الذي لا يعني الوقوف ضد الحروب الشاملة فحسب، بل ضد الحروب الإقليمية، أو القائمة على أساس صراعات قبلية أو قومية أو دينية أو طائفية، فغالباً ما يكمن خلفها أنظمة لاديمقراطية أو قائمة على التمييز المجتمعي وتشجعها بيوتات الأسلحة في الدول الكبرى.
ي – محاربة ظواهر الفساد والإفساد مهمة أولى لمن يريد البناء المتين الراسخ، فلا شيء مثل الفساد قادر على تدمير أيِّ بناء، إنه أشبه بالثورة المضادّة التي تأكل روح المجتمع وطلائعه المبدعة. وغالباً ما يرتبط الفساد بالاستبداد فهو صنوه ومحتواه، وهما نقيضا التقدم والارتقاء.. بل إن الاستبداد أبو الفساد في ميادين كل ما ذكر. ومن هنا، تشكل حماية المجتمع من آفته حجر أساس في كل بناء يراد له النمو والاستمرار. ويبقى وجود الحريات السياسية ومبادئ الديمقراطية عتبة أولى نحو سلامة المجتمع من آفاته كافة.
أخيراً: يجسّد مجمل ما ذكر، على نحو أو آخر، مفهوم الوطن والوطنية بمحتواهما الاجتماعي والإنساني. وأغلب الظن أن المستبدّين وأصحاب الشعارات والإيديولوجيات سوف يستصغرون ذلك الفهم، ويذهبون إلى مجابهة أعداء يصنعونهم بإرادتهم، ليكونوا دريئة تختبئ خلفها أفعالهم الخبيثة، وإلا كيف لهم البقاء إن لم يكبِّروا الجيوش، وأجهزة القمع، وفي الوقت نفسه، ينشطون بيوتات السلاح في العالم، وذلك ما حدث لدى مواجهة الربيع العربي الذي أدار اليسار التقليدي له ظهره، مدارياً عجزه ومتعلّلاً بالإرهاب وبالتطرف الإسلامي..
بناء الأوطان المتين والثابت يبدأ بالأمور الصغيرة، على عكس ما كان يقول به الشيوعيون السوريون: “لو أننا انطلقنا من الأوضاع الداخلية لكنا في المعارضة حتماً..”. ولو كانوا فعلوا جهدهم لما دمِّر الوطن بالكامل، أو لما كانوا تحمّلوا جزءاً من مسؤولية تدميره. نعم، عمل المواطن، ولقمة عيشه وصحته وتعليمه، ومسرحه، ومؤسساته الثقافية كافة، وقضاؤه المستقل، وقوانينه المؤكدة للحرية، وصحافته: مرآته، وحتى نظافة بيته، وحيه، وحديقته، هي الأساس لوطن آمن، ومتصالح مع ذاته والآخرين.
المصدر: العربي الجديد