عبدالوهاب بدرخان
عملياً، بدأت الخلافات الإسرائيلية مع إدارة جو بايدن من حيث انتهت مع إدارة باراك أوباما، الذي مرّت علاقته مع بنيامين نتنياهو بفترات بالغة الحرج، واضطر في نهاية عهده لدفع “تعويضات” لإسرائيل عن “تضرّرها” من الاتفاق النووي. وفي عهد دونالد ترامب حقق نتنياهو جزءاً مهمّاً من أهدافه بالانسحاب الأميركي من الاتفاق وممارسة “الضغوط القصوى” عبر العقوبات المشدّدة، وحتى الوصول الى حافة المواجهة العسكرية مع إيران.
في غضون ذلك، تكثّف التنسيق الاستخباري، الأميركي – الإسرائيلي، في عمليات داخل إيران، كذلك في هجمات إسرائيلية أو مشتركة لفترةٍ ما على مقار لوكلاء إيران في العراق، وضربات لمواقع إيرانية في سوريا لا تزال مستمرّة، لكن لم يعد مؤكّداً مدى “التنسيق” الثنائي فيها.
أظهرت الإدارة الجديدة في واشنطن ابتعادها عن الخط الترامبي، متّجهةً الى التفاوض للعودة الى الاتفاق النووي، وبالتالي حتماً الى رفع العقوبات أو معظمها عن إيران. ومن الواضح أنها لم تتشاور مع إسرائيل، لأنها تعرف موقفها مسبقاً وليست في وارد استئذانها، وإن كانت قد جدّدت الضمانات لأمنها، لكن هذا الالتزام التقليدي لم يعد يكفي إسرائيل، ولأن التفاوض في فيينا بدأ من دون أي تفاهمات مسبقة معها باشرت محاولات لتعطيله، برغم علمها أنها لن تتمكّن من ذلك.
في السياق، قدمت إسرائيل مذكّرة الى الأمم المتحدة تدعوها فيها الى التحقيق في الانتهاكات الإيرانية للاتفاق النووي، ثم كشفت عن حرب سفن بينها وبين إيران، ونفّذ عملاء لها تفجير دائرة توليد الكهرباء في منشأة نطنز، لكنها تلقت ردّين إيرانيين، أولهما رفع نسبة تخصيب اليورانيوم من 20 الى 60 في المئة للضغط على مفاوضات فيينا، وثانيهما صاروخ (أرض – أرض بحسب رواية طهران، أو مضاد جوي “طائش” بحسب الرواية الإسرائيلية) بالقرب من مفاعل ديمونا النووي، ما اعتبره المراقبون رسالة الى إسرائيل… لم تتفاعل واشنطن مع هذه التحركات بل تعاملت معها بتجاهل أو بمواقف باردة أو مقلّلة من أهميتها، كما في قولها إن الصاروخ على ديمونا لم يكن متَعمَّداً.
كل ذلك دفع الإسرائيليين الى القول إنهم للمرة الأولى فقدوا القدرة على التأثير في التوجّهات الأميركية، علماً أن الحديث يتعلّق هنا بمسألة استراتيجية باتت خلافية، على غير العادة بين الدولتين الحليفتين. فالعودة الى الاتفاق تعني لإسرائيل أولاً أن تفوّقها العسكري في الشرق الأوسط لم يعد حتميّاً، لأن إيران ستتمكن في مستقبل قريب من حيازة سلاح نووي، وثانياً أن إدارة بايدن تتسلّح بمصالح أميركية استراتيجية قد تتطلّب لاحقاً الاعتراف لإيران بمنزلة “قوة إقليمية عظمى” ولو من دون تغيير سلوكها أو ضمان انضباطها، بل حتى من دون تأمين المصالح الأميركية.
هذا ما كانت إدارة أوباما بلغته عام 2015، وما شكّل ثغرة كبيرة في الاتفاق النووي. إذ كانت إيران قد حقّقت خلال التفاوض جلَّ ما تريده إقليمياً (سوريا والعراق واليمن ولبنان) بفضل غضّ نظرٍ ومهادنةٍ أميركيين، ثم حقّقت ما تريده بنتيجة التفاوض، لأن الاتفاق رفع العقوبات عنها ومكّنها من استرجاع أموال لها كانت مجمّدة فعزّزت برنامجيها النووي (أجهزة طرد مركزي متطوّرة) والصاروخي، وموّلت أنشطة ميليشياتها وخزّنت مليارات ساعدتها على تحمّل عامين ونيّف من العقوبات. والآن تريد إدارة بايدن العودة الى الاتفاق نفسه بغية تطويره واستبعاد أي توتّرات أو مواجهة، لكن آفاق فتح الاتفاق لتعديله وتشديد قيوده لا تبدو واضحة، بل ستزداد غموضاً. لن تتوانى إيران عن المماطلة بحجة أن مدة الاتفاق تنتهي سنة 2025، خصوصاً بعد أن تكون واشنطن قد رفعت، كما هو متوقّع، القيود عن تصدير إيران نفطها وتعاملاتها داخل النظام المصرفي العالمي. أما العقوبات الأخرى المتعلّقة بالحرس الثوري وشركاته أو بعدد من الكيانات والأشخاص، فقد اعتادت طهران الالتفاف عليها عبر الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
تلتقي وفود إسرائيلية، سياسية وعسكرية واستخبارية، هذا الأسبوع في واشنطن مع كبار المسؤولين في الإدارة على خلفية تعارض واضح بين استراتيجيتَي الطرفين. الجانب الأميركي يرى أن إسرائيل تحاول تخريب جهوده الدبلوماسية للعودة الى الاتفاق النووي، وأن انسحاب ترامب منه رهن حركة واشنطن بنجاح ضغوطه على إيران، لكنها لم تحقق النتائج المتوخّاة، بل دفعت إيران الى شراكة استراتيجية مع الصين وروسيا. وبالتالي فإن دعوات إسرائيل الى بقاء أميركا خارج الاتفاق ومواصلة العقوبات ليست خياراً عملياً. أما الجانب الإسرائيلي فسيركّز على “الخطر الداهم”، سواء بتوصّل إيران قريباً الى قنبلة نووية أو بازدياد مخاطر انتشار ميليشياتها المزوّدة صواريخ دقيقة، ليخلص الى أن الضربات العسكرية “ضرورة حيوية تساعد الموقف الدولي” ما لم تتمكّن واشنطن من إنجاز اتفاق جديد أكثر تشدّداً في مدى زمني قريب.
ستكون محادثات معقّدة ومتوتّرة، فلا أميركا تريد مواجهة مع إيران كما يتمنّاها نتنياهو، ولا هو يستطيع المضي بعيداً فيها من دون قرار ومؤازرة أميركيين، ولا إسرائيل تستطيع الذهاب بعيداً في التشويش على أميركا والمجازفة بالتمرّد عليها أو إضعاف العلاقة التاريخية معها. لم يسبق للطرفين أن بلغا طوال الصراع العربي – الإسرائيلي مثل هذا الحدّ من الخلاف والتعارض العلنيين حيال إيران، التي تعمل على “طرد” أميركا من المنطقة وتهدّد بـ”إزالة” إسرائيل من الخريطة. هذا الخلاف يبدو أكبر من أن يُحَلّ ببضعة أيام من النقاش، لكن الطرفين محكومان أولاً بالتهادن ثم بالتوافق على استراتيجيةٍ ما تستلزم وقتاً لإنضاجها.
في الكونغرس الأميركي بديموقراطييه وجمهورييه آراء متناقضة حول الاتفاق النووي والسياسة الواجب اتّباعها مع إيران. التناقضات أقلّ في الوسط السياسي – العسكري الإسرائيلي حيال إيران، لكن هناك إجماعاً على ضرورة عدم التهوّر بخلاف عميق مع أميركا. ثمة غموض في الأهداف النهائية لإدارة بايدن وطريقة تحقيقها وحول ماهية المصالح الأميركية وكيفية التوصّل اليها، ما دامت طهران ممانعة أي تطبيع حقيقي مع واشنطن، وهل هذه المصالح تتضمّن فعلاً تصحيح السياسات الإقليمية لإيران وصولاً الى استقرار في الشرق الأوسط والخليج؟ في هذا السياق ثمة تساؤلات عمّا إذا كان التوافق بين أميركا وإسرائيل سيعني نهاية سياسة “تقليص” النفوذ الإيراني في المنطقة.
المصدر: النهار العربي